قصه قصيرة
يوسف عزيزي
أحضرت معي ريمي لتأكل الفئران وهاهي قامت بإبادتهم بفاعلية ونفذت مهمتها بشكل جيد . لم نعرف الراحة أبدا قبل مجيء ريمي هنا، وكانت الفئران كالملوك تسرح وتمرح في كل أقسام الباخرة .
في عبادان طلب مني الربان قطة ذات شهية كبيرة لأكل الفئران وقد أحضرت له إحدى قططي المدللة وأطلقتها في الباخرة . أحببت ريمي في بيتنا كأطفالي ومن صميم قلبي وفي الفترة الأخيرة أصبحت أنيستي الوحيدة في الباخرة ؛ أحضرت ريمي لاُلبي طلب الربان فقط ؛ لكن لو كان هذا الطلب من رئيس الباخرة لرفضت لأنني كنت أفضل أن يصاب بالطاعون ويموت موت الزؤام .
لعلكم تسألوني عن سبب كرهي لرئيس الباخرة وياليت ترون وجهي ويدي كي تعرفوا الحقيقة .
هذا الحادث أيضا وقع في عبادان ، عندما كانت الباخرة راسية قبالة المصفاة . أنا وزملائي كنا نستعد لتصليح غلاية الباخرة ، إذ فجأة تسرب بخار غليظ وساخن من الغلاية وملأ الأطراف ، ولو استمر تسربه لحظات أكثر لاختنقنا جميعا.
جيد ، البخار لم يتسرب بشكل اعتباطي ولم يفتح أحد من زملائنا صمام الغلاية ؛ إذن – ودون شك – أن شخصا ما قام بفتح الصمام ليملأ البخار الغرفة بمثل هذه الكثافة . اأا متأكد أن أحدا لم يقم بهذا العمل إلا رئيس الباخرة وهو الذي أعطى أوامره لتنفيذ هذا العمل الإجرامي ؛ هذه ليست تهمة موجهة لأحد؛ وجميع زملائنا يعرفون جيدا السبب الذي يكمن وراء مثل هذه التصرفات الرعناء وبهذه الطريقة الخطرة .
كان رئيس الباخرة يصر أن لا نقوم بتصليح الباخرة في ميناء عبادان وكان يفضل ميناء الأسكندرية لهذا الغرض . هو نفسه قال لأحد الزملاء بالانكليزية وبلهجته اليونانية ” الآن وبعد أن قررنا أن نتأخر بعض الوقت للتصليحات ، لماذا لا نرسوا في ميناء الاسكندرية ، عروسة البحر ومدينة الاستجمام والكازينوهات والبلاجات الذهبية “.
وها نحن عوقبنا بهذا الشكل لإصرارنا على تصليح الغلاية في عبادان . طبعا الرئيس لايعتبر نفسه مذنبا ويدعي أن الحادث وقع بسبب خطأ ارتكبه زملاؤنا المصلحون .
ويا للأسف قد احترقت وجوهنا وأيدينا قبل أن نصل إلى الشاطئ الذهبي في الاسكندرية . لذلك نحاول الا نظهر كثيرا على ظهر المركب ، غير أن طبيعة العمل تتطلب شيئا آخر ، حيث ينبغي أن نكون في كل مكان ؛ داخل الباخرة أو على ظهرها ، تحت الشمس الحارقة أو في الظلال . في الحقيقة أن أشعة الشمس تعمق من جروحنا وحروقنا .
مدى العين تنظر، مياه البحر مبسوطة على بساط الله وللمياه ألوان في كل ساعة من ساعات اليوم : في الفجر لونها أخضر وفي الصباح لازوردي وفي الظهيرة لونها فضي وفي المساء يميل إلى الذهبي وفي الليل يتحول إلى أسود قاتم .
لم نر شيئا في الأفق المنظور سوى الماء ؛ إذن هو ماء وليس سرابا! واأت عندما تقف على شاطئ البحر ، ترى الماء عظيما جميلا عزيزا على القلب لكن عندما تركب الباخرة وتمكث في المياه البعيدة عن اليابسة لأكثر من يوم أو يومين أو شهر أو شهرين فتصبح كالماء مادة سائلة بلاطعم ولالون .
صار لنا أربعون يوما ونحن عائمون في المياه . أحيانا نصاب جميعا بحالة تشبه الانجذاب ؛ لم يبق لي ولجميع زملائي أي مزاج ؛ حتى الكلام أصبح بلامعنى وتركنا الثرثرة ؛ كما أن الراديو لم يستطع أن يغير من أحوالنا . لم يهمنا أي شيء ، لا صوت أم كلثوم المفعم بالدفء والحيوية ولا رواية العجوز والبحر لارنست هيمينجوي . الربان هو الوحيد الذي يُسمح له أن يعيش مع زوجته في الباخرة ؛ وها هو يقضي وقته في اللعب واللهو .
الرئيس سكير والبحارة جميعا سكارى دائما . أرى ريمي منهكة ومتضايقة ؛ ريمي المفعمة بالنشاط والحركة والتي كانت تجوب الباخرة عرضا وطولا وطبقات وتصطاد الفئران في أاي لحظة تشاء باتت الآن تتسكع على ظهر الباخرة وتحملق في مياه البحر.
فكرت أنه لا بد من إخفائها مرة أخرى وعزلها عن العالم الخارجي. أصيبت ريمي قبل نصف شهر تقريبا بمثل هذه الحالة وأصبحت شبه مسعورة ؛ كانت تموء باستمرار وتدور حول نفسها ، كأنما أصيبت بدوار البحر أو ضاع منها شيء ما. كانت تفتح كفها كالأسد وتهاجم أي شخص يواجهها .
أمسكتها لأعصب عينيها بقطعة قماش حتى لا ترى أي شيء؛ قاومتني بكل قواها وخدشت يدي ووجهي ومزقت قميصي . كان عملا شاقا جدا غير أني استطعت في النهاية أن أعصب عينيها وأخبئها في مكان ما حتى لا ترى البحر ولا تشم رائحة المياه الزفرة .
بعد خمسة أيام فتحت العصاب ؛ هدأت ريمي وتحسنت أحوالها بعض الشيء وبدأت تصطاد الفئران من جديد .
وبعد كل ما جرى ، هاهي الآن أمست أكثر منطوية على نفسها ولا يسليها أي شيء . فكلما تطول فترة الإبحار تنطوي ريمي أكثر فأكثر على نفسها . والبحارة يسلون أنفسهم باللهو واللعب ليملؤوا الفراغ القاتل في حياتهم .
الآن وفي هذا المساء الممل ، أرى ريمي وقد تغير مزاجها وأصبحت كما كانت قبل نصف شهر ؛ تركض على ظهر الباخرة وتخرج لسانها أحيانا ولا ينقطع مواؤها لحظة واحدة ؛ تجلس على حافة الباخرة وتحملق في مياه البحر ؛ أتصور أنها تريد أن تقرأ شيئا أو تهاجم شيئا ما ، أو كأنما تتابع أثر سمكة في البحر .
لا، ليس تحملقها في المياه لاصطياد السمك. يبدو هي أيضا أصبحت منجذبة؛ صار لها ساعتان وهي محدقة في المياه ، ربما هناك علاقة مغناطيسية بين عيون ريمي البرتقالية ومياه البحر الذهبية .
لا أستطيع بعد الآن أن أعصب عيون ريمي الجميلة ولا يمكنني أن أراها معصوبة العينيين لا تراني .
” عجوز” همينجواي يصارع السمكة الكبيرة ونحن مصابون بمرض الصمت الرهيب ؛ صمت البحر و الانسان ومصابون بداء العزلة والانطواء ؛ نحن لانصارع الصمت الواسع كالبحر ، بل نصارع أنفسنا حيث من الممكن لهذا الصراع أن ينتهي إلى خيبة أمل مطلقة .
” العجوز” لم يمكث في زورقه الصغير في البحر سوى عدة أيام ونحن صار لنا أربعون يوما منقطعين عن العالم الخارجي في هذه الباخرة التي تشبه مدينة للأموات المتحركة .
الربان يبدو في أتم الراحة لأن غرفته تحتوي على كل ما يشاء من حمام ومغسلة ومطبخ ويعيش مع زوجته مثلما يعيش في بيته ؛ لكن هؤلاء أيضا صار لهم زمان لم يتكلموا مع بعض .
أنا متفرج فقط أو في الحقيقة كلنا أصبحنا متفرجون . القطة تحملق في البحر اللامنتهي ، ربما تفكر في ذكرها ولا تلقاه وهذه الحالة تكون السبب بألا ترى إلا الظلمة و السواد .
هنيهة وأسمع صوت سقوط شيئ في البحر . القطة تغيب عن نظري . أنظر إلى جميع الجهات ، لكنني لا أراها ، أظن أن البحر قد فعل فعلته وجذبها إليه .
أحدق في مياه البحر ، الأمواج تقذف ريمي إلى هنا وهناك ؛ لا تحرك ساكنا ولا تحاول أن تخلص نفسها ؛ وها أنا أراها كيف تغطس في مياه البحر رويدا رويدا لتصل إلى القاع ، فريسة سمينة وطازجة لسمكة قرش أو حوت جائع .