قصة قصيرة
يوسف عزيزي
اصبت بالدوران و شعرت بالغثيان و كذرات الرمل التي توضع في ” الجبالة ” اخذت ارتمي في هذه الجهة تارة و في الجهة الثانية تارة اخرى. كنت عائما داخل كرة سوداء قاتمة و لم استطع السيطرة على نفسي. حقيقة هذا لم يكن بارادة مني فهناك قوة خفية اوقعتني في تلك الحفرة النتتة و المظلمة دون رغبة مني كانت تلفني و تدورني. جدرانها حمراء و ربما لم يلامسها الماء لساعات او لايام الا ان هناك سائل لزج يتدفق من النبع الموجود في اعلى المغارة مما يجعل جدرانها مبتلة و رطبة.
بعد ان امتصتني جيدا و بقيت هيكلا عظيما جافا و يابسا و في الرمق الاخير وضعتني بين شفرتين حادتين تشبهان الكماشة ثم ضغطت علي بقوة كبيرة و قذفت بي للخارج او بعبارة اخرى بصقتني و كانما تريد ان تهدي غضبها فداء للارض. و بعد ان لفحتني اشعة الشمس هدا روعي و خرجت من تلك الحالة اللزجة الرطبة التي كنت فيها. كان الطقس حارا بل و حارقا. و حين وقعت على الارض شعرت بالحرارة اكثر فاكثر. لم تكن ارضا بل بحرا واسعا لا حدود له و لكي اتاكد فركت عيناي. نعم انه بحر واسع يثير الدهشة و العجب. اخذت اسأل نفسي لماذا لون البحر هكذا و هل من الممكن ان يكون البحر احمرا بهذا الشكل؟ امواجه المتلاطمة تشبه اسنان القرش و هي على اهبة الاستعداد للنهش.
انا لم اتي من العدم كما انني شاهدت هذا الكون من قبل. و كما اتذكر كان بحار هذا العالم كلها زرقاء و احيانا تتبدل الى لازوردية. غير ان هناك كان للبحر لونا اخر.و بالرغم من نحول جسدي و هزالته عندما كنت محلقا في الفضاء لم تسعنا الدنيا من الفرحة لتوقعي انني ساشرب بعد هنيهة ماءا عذبا و ساسلم جسدي لرطوبة هذا البحر و سوف اريح نفسي من عناء هذا الطقس الجاف المحرق. الا انه ما ان لامس جسدي مياه هذا البحر الاحمر الواسع حتى اشتعلت النار فيه. حرقة مؤلمة سرت في جميع انحاء جسمي الناحل. فمن تلك الحفرة النتتة الرطبة, قذفت الى هذا البحر الجاف, بدأ جسمي يسخن شيئا فشيئا و مع مرور الوقت اعتاد على هذه الحالة و بينما كنت ضائعا و حائرا غمرتني موجة عظيمة كالجبل و غطت جسدي باكمله.
مرة اخرى اسودت عيناي و لم تعد ترى اي شئ و بقيت مدفونا تحت اكوام من الرمل و الحصى. نعم ما كدت اعتاد على النور و الضياء حتى اخذتني الظلمة مرة اخرى الى احضانها, مدفونا تحت تلك الكثبان الرميلة. لكن حسن هذا الموقع هو انه اكثر برودة من تلك الصحراء المحرقة الخالية من اي نبات. لم يكن لي مونسا سوى ذلك اللحن السمفوني الجميل الذي وصل الى مسامعي من بعيد في احدى الليالي. استمعت الى ذلك الصوت العذب الدافئ بكل رغبة, ثم اصبح انيس وحدتي في الليالي.
و عندما كان يظهر القمر و يصبح بدرا و يضئ بين غيوم السماء كوجه عروس جميلة, كانت تعطيني تلك السمفونية المقمرة و بايقاعاتها الموزونة و لحنها العذب لحنا و قوة. و عندما كان القمر يغيب و يختفي كان ذلك الصوت بدوره يبتعد عني. لذلك كنت ابقى حزينا حتى تعود الليلة الرابعة عشرة و ما ان اسمع ثانية ذلك الصوت الحالم البهيج و استمتع به حتى اشعر و بالتدريج ان عالما اخضر و شفاف قد استولى على كل وجودي.
كنت قد تغيرت و قلبي كبر و كاد ان يخرج من مكانه. ترى ما هو سحر تلك السمفونية المنعشة المنفوس حيث بدت لي ظلمة الاقبية جميلة و رائعة؟ و من شدة الحماس و الشوق و الوله كنت امزق ثيابي و اقطع قلبي اوصالا لاهديه لصاحب تلك السمفونية الصاخبة. الان اصبحت لدي ايادي و ارجل عديدة, اخذت تمد جذورها الى اعماق التربة.
و في ليلة مقمرة عندما وصلت الى سمعي تلك النغمة العذبة, مددت يداي لاحتضن امواجها الزرقاء, احنيت رأسي و قلت :
– اني مدين لك في وسط هذه الرمال و الحصى الصلدة.
– و بقدرتك و طاقتك.
– لو لم تكن سمفونيتك المقمرة, لكنت اليوم مدفونا في اعماق التربة. ففي هذه الحياة الموحشة كانت تلك الموسقى البحرية الصاخبة طعامي و شرابي, املي اللازوردي الذي كنت احيا به. فعندما اقترب ذلك الصوت الازرق اكثر قال لي :
– لا يزال امامك عدة سنين لكي تطور نفسك تحت اشعة الشمس الساطعة و ان تغسل رجليك في بحر الحصى و الحجارة و ان تسرح شعرك الاخضر و تمشطها بعواصف الرمال.
– لا حزن ينتابني طالما ان موسيقاك السماوية موجودة و هي تطرب بمدها و جذرها روحي الولهانة.
عندما كان ذلك الصوت الازرق السحري يبتعد عني و يجر جر فستانه المائي ناديته و قلت مرة اخرى:
– اعترف, اعترف اني قد بعثت من جديد من سحر تلك السمفونية المقمرة . ان موسيقاك السماوية كانت السبب كي اترعرع و ارفع هامتي الى عنان السماء.
سألتني معاتبة و بنبرة تبدو و كانها تجني في داخلها احزان الاف السنين :
– تكلم عن البدايات, عن ذلك الذي له حق عليك.
عندما هدات الامواج جلست بدوري و استعدت بذاكرتي تلك الايام التي كان يشتد فيها عودي و اترعرع و اطول. و بينما كنت على هذه الحالة رايت رجلا مسنا محني الظهر يعتمر كوفيه بيضاء جاء من بين تلك الرمال. نثر على وجهي و جسمي مسحوقا معطرا ذو رائحة زكية و مضى. لقد عادت الي روحي و نشاطي, كنت ابن تسع سنين حينما سقطت اسناني البنية و حلت محلها اسنان جديدة ناصعة البياض, اسنان تلمع كلمعان النجوم في السماء و تبشر بالامل.
ففي تلك السنة اخذ الرجل المسن يربت على كتفي و يقول :
– في السنة القادمة ستبلغ العاشرة و عليك ان تطعمنا الحلوى.
في الربيع العاشر تمنطق ” الفروند ” و تسلق, اخذ شفتاي البنيتان بيده الخشنة ثم طبع قبلة قوية على اسناني الفضية و على وجهي, ثم نثر رحيق الحياة و ذهب.
عندما مضت عدة شهور و حل موسم نضوج التمر لم يأت الرجل المسن كعادته بل جاءت هذه المرة امرأة عجوز حزينة ترتدي عباءة سوداء لم تنطق ببنت شفة, ملأت سلتها بثمار التمر و ذهبت. و خلالها وضعت حبة من التمر في فمها فحصلت على الطاقة و مشت و قطعت المسافات. فرحت العجوز لانني كنت حلوة المذاق, حلوة جدا احلى من السكر.
فجأة اصبت بالدوار و شعرت بالغثيان و اخذت ادور في فناء اسود و خال و بعد ان امتصتني حتى اخر قطرة و بقيت هيكلا جافا و في رمقي الاخير قذفت في الصحراء…
الفروند : الة تقليدية يستعملها الفلاحون الاهوازيون لتسلق شجرة النخيل.
————————————————————————————————————————
طهران 1988