قصة قصيرة
يوسف عزيزي
– عليك أن تقتله الليلة بالضبط.
– لا، لايمكن الليلة!
– مع الأسف لا رجل في هذه العشيرة؛ فغلطتي الكبرى،
أنني كنت أعلق الامآل عليك.
– سأنتقم للشيخ؛ لكن أرجوك أن تمهليني حتى صباح غد.
صمتت المرأة، ووضعت قدمها اليمنى على اليسرى، وغطتهما بثوبها الطويل.
كانت أسوار الذهب تغطي ساعديها، وترتفع منها اصوات اصطكاكها، وذلك عندما كانت تجفف عرقها بمنديلها الابيض ،أو تهز عصاها الخيزران التي كانت تحملها معها دوما.
كان هناك شيئان يستقطبان نظره: “سحّارة” قديمة في أحد أركان الغرفة، و صورة مؤطرة للشيخ تحدق من أعلى الجدار في أجواء الغرفة الحزينة.
نهضت المرأة من مكانها، و اتجهت الى “السحّارة”، وفتحتها بالمفتاح الذي كان موثوقا بسلسلة في رقبتها.
حدق الرجل في قطعة قماش يبدو أنها ملفوفة على تعويذة مقدسة. رفعت المرأة قدرا من القطعة ، فظهر شيء أسود اللون يسطع بفعل الأضواء التي تشع من خارج الغرفة.
اتسعت عينا الرجل ،وسأل: من أين أتيت بهذا؟
ابتسمت قائلة: من بطن الارض!
وسأل الرجل مرة أخرى بدهشة: من أين لك هذا السلاح في هذه الأجواء المشفوعة بالاعتقالات؟
– لاتنس أنني نعمية و الحي يعرف باسمي نعيم آباد.
– اعرف هذا ولكن..!
– لاتشغل بالك بهذه الاشياء، عليك فقط أن تعدني بتنفيذ العملية.
– اقسم بجدنا المشترك، بشيخ المشايخ.. لكن..
– ما معنى لكن؟ هل تريد ان تضع لي شرطا وشروطا؟
جلست المرأة واضعة قطعة القماش الاخضر على الرف.
قال الرجل بلحن يقترب من الالتماس: سيدتي تعلم..
– نعم أعلم أن لديك امرأة و إحدى عشر طفلا؛ ماذا تريد أن تقول؟
– أريد أن أسأل: ماذا يكون مصيرهم إذا ألقوا القبض علي.
– اذا اعتقلوك سأشتريك بأموالي، واذا لم أستطع سأغير اسمي. ستقضي برهة في السجن، و سأدفع نفقات أسرتك. وهذا عهدي مادمت حية.
– ألا يمكن أن نحل المشكلة، وننهيها بأسلوب “الفصل” و وساطة كبار العشائر؟
شحب لون وجهها، وصاحت بغضب: ألم أقل بأنك لست رجلا. كل إنسان يمكن أن يتخذ الفصل سبيلا للحل، لكن نعيمة..
قاطع الرجل، نعيمة ناهضا من مكانه مقبلا يدها.
نعيمة لم تسحب يدها. حدق في هندامها الذي كان يفوح عطرا منعشا. شعر بالدوار المفعم بإحساس غامض تجاه المرأة. عاد مرة أخرى الى مكانه و جلس. لم ينظر بعد ذلك إلى عينيها السوداوين الواسعتين.
أحنى رأسه، ولم ينظرإليها. كان المعوز الوحيد في الأسرة الذي احتك بأبناء الشوارع لما كان يشعر بالدونية ازاء المرأة. اذ أصبحت نعيمة أكبر أفراد الأسرة بعد اغتيال الشيخ شكر و الصغير والكبير يحترمها و يجللها. كان لايزال رأسه منحنيا الى الارض عندما سألته:
– لماذا لم يفجر الاطفال اليوم المفرقعات؟
– لماذا؟
– من أجل الشيء الذي نريد اختباره.
خرج الرجل من الغرفة، و همس في أُذن أحد الأطفال الذين كانوا يلعبون في الفناء الداخلي، ثم عاد الى الغرفة،و قبل أن يجلس طلبت منه أن يقفل أبواب الغرفة.
قال الرجل في قرارة نفسه:”دخيلك ياالله”
وسأل المرأة:” ماذا تريدين فعله سيدتي؟”.
المرأة لم تُجبه، مدت يدها الى قطعة القماش الخضراء
و سحبت منها شيئا أسود اللون، و سلمته للرجل.
لمسه الرجل في الظلام. كان لزجا؛ كأنه مشحم بزيت التزلق.
كان ضجيج المفرقعات و السيارات مسموعا داخل الغرفة. حدق الرجل في وجهها الجميل و الحلى الذهبية التي كانت تغطي عنقها وذراعيها، وساد الصمت بينهما هُنيهة. ثم سألته المرأة: تعرف كيف تستعمله؟
أجاب الرجل ب”نعم”، و جثى على ركبتيه، كاد قلبه أن ينتزع من صدره. “شرف العشيرة، الهندام الرشيق، الأساور الذهبية، نفقات الأسرة، و التسكع في بلاد الغربة” هذا ماشغل باله في تلك اللحظة.
سألته المرأة: لماذا أنت متردد؟ عليك أن تطلق الرصاصة.
حدق الرجل في النقطة السوداء في وسط المثلث الابيض. كانت يداه ترتجفان. أطلق رصاصتين لم تصيبا الهدف. كان الجدار الابيض يبتلع الرصاصات الخاطئة. مرة ثالثة و رابعة و.. سابعة؛ حتى شعر بأن يديه ماارتجفتا بعد ذلك. أنهكته العملية وأخذ العرق يتصبب من كل أنحاء بدنه.
“سأدفع لاسرتك ما تحتاج إليه، وسأشتري لك منزلا، وسأفعل كل ما تريده إزاء العمل الذي ستقوم به”.
كان الرجل يتأمل المفردات التي تفوهت بها المرأة حين أضافت: الان يمكنك أن تفتح أبواب الغرفة، عليك أن تبلغ الأطفال كي يكفوا عن تفجيرالمفرقعات،وقبل ذلك قل لي : ماذا تفعل غدا؟
– غدا..! أنا..! سأقوم بالعمل الذي تريدينه، وسيتم هذا فقط من اجلك.
هز الرجل رأسه إلى الأمام، وقال بصوت ضعيف يسمع بصعوبة: سأذهب صباح غد إلى حارة “كوت الشيخ”، أنتظر مجيئه ومن ثم..
– في مكتبه أم في الإدارة؟
– لا في مكان أسوأ من المكتب!
– أين؟
– في المرحاض.
– أحسنت، أحسنت عليك. الآن فهمت ماذا أُريده أنا. إنك سترفع رأس العشيرة، و ستبهج روح الشيخ شكر – رحمة الله عليه – أنت تعرف أن الشيخ لم ينصفني في أواخر حياته،إذ وقع في حب تلك الراقصة الساقطة، و أثار غضبي وحنقي، و لوث أصالة أسرتنا. إنني أعني اسمهان الغجرية التي أنجبت له ثلاث بنات حرام. سأطردهن من البيت؛ سأطردهن بعد انقضاء أربعينيته ان شاءالله.
– عليهن أن يذهبن إلى أخوالهن، ليعزفن على آلة الرباب. يجب أن تبقى سلالة الشيخ شكر، نقية.
شعرت المرأة كأنها تتحدث لاعضاء عشيرتها، و فيما كانت تظهر هيبتها و وقارها الشيخي قالت:هل سمعت مؤخراأن بعض حديثي النعمة يجترون الكلمات ويقولون إن زواج الأقارب امر سيئ، ويتسائلون لماذاأبناءنا مصابون بالنعورية وماشابه ذلك وهم يريدون بذلك تدمير عائلتنا. وأنا أسأل لماذا قُتل الشيخ أساسا؟ أجل لماذا؟! فالطرف المقابل لم يكن من عامة الناس، بل كان شيخا ايضا، شيخ عشيرة “الاماجد”. فقد وقعت مشادة كلامية بينه و بين الشيخ شكر حين قال له شكر: إن الشيخ خزعلا هو الذي منحنا حكم شيخ المشايخ ولم تكونوا أنتم إلا رعايا لنا، ولا نسمح لكم بالزواج من بناتنا.
وقد أثاربذلك حنق الطرف الآخر، و كانت هذه الجريمة حصيلة تلك المشادة الكلامية، و قضية الخلاف على الأرض و الأملاك كانت ذريعة ليست الا. وعلى كل حال لايمكن تطهير الدم إلا بالدم. عليك أن تنتقم للعشيرة، ولاأعرف رجلا آخر غيرك يقوم بهذا الواجب الذي لايؤديه، إلارجل لايقيده في الحياة قيد،وهو مستعد دائما للانتقام من الأعداء. جميع افراد عشيرتنا أصبحوا مقاولين، أو يعملون في شركة النفط وهم يبيعون اراضي العرب للغرباء. لكن ” الأماجد” يرون قتل الانسان كشرب الماء، لأن الحياة في المدينة لم تفسدهم، فهم مازالوا يعيشون بمزاج العشيرة وضوابطها.
قال الرجل:
– هل تريدن رأسه؟
– لا، لأنهم سيفتكون بجميع أفراد عشيرتنا. فقط عليك ألاتنسى أن تطلق عليه رصاصة الرحمة. لا، لا، ليس رصاصة الرحمة بل عليك أن تخنقه بيديك.
مكثت المرأة هنيهة؛ ومن ثم رفعت رأسها إلى الأعلى. و فيما جال في بالها شيء سألته: ماذا سمعت صباحا عندما كنت في وسط المدينة؟ أُقسم بالله أنني لم أخرج من البيت منذ أسبوعين،و لم التق إلا النساء، ولم اقبل مقابلة الرجال، فهم ليسوا برجال.
أنت الرجل فقط، و شكر كان رجلا أيضا، لكنه رحل واأسفاه. كنت أعرف أنك سوف تترك كل شيء في حياتك، و تجي إلى هنا. فقد قطعت طريقا طويلا قطعت ثلاث مئة كيلو متر، لتنتقم من الأعداء، كنت أعرف هذا من قبل.
رد الرجل: لم أسمع اي خبر خاص صباح اليوم، لكن يجب أن أقول لك بأنني كنت هنا عند وقوع الجريمة. جئت إلى المدينة فجأة، ولاعلم لي بشيء. الوضع كان مضطربا. في التاكسي سمعت خبرا مبهما. المسافرون كانوا يتهامسون بينهم، ثم رأيت العسكر منتشرا في كل أنحاء المدينة، فسألت السائق” ماالأمر؟” حدق بي وقال: “أحكام عرفية” فقلت له: هل.. لكنه لم يمهلني وكأنه علم بأنني أريد أسأل:” هل حدث شيئُ مهم؟ فرد علي:”لا” لكنه يبدو ندم.
وأضاف:” قتلوا شيخا بارزا في المدينة”. شعرت بالقشعريرة، وعندما فكرت مليا تذكرت باننا احدى العشائر الكبرى في المدينة. سألت السائق مرة اخرى:” هل تعرف اسمه؟” فرد ب”لا”. من ثم قررت ان أزور بيتك، حيث قلت للسائق:” هل تذهب الى نعيم آباد؟” قال: لا، الدروب مغلقة. فنزلت عند رأس الجسر، حيث اطلعت هناك على كل التفاصيل. وعدت أدراجي، و غادرت المدينة في قطار الساعة التاسعة مساء. ولم أزر بيت أحد، و قلت لنفسي : سأعود بعد أن تهدأ الأمور! والان أنا في خدمتك يا سيدتي الكبيرة.
جئت في الوقت المناسب. عليك أن تثمن أهمية قطعة السلاح هذه، فقد دفعت مالا باهضا لشرائها. أرسلت أحدهم إلى البصرة في العراق، ليجلب لي هذه القطعة.
خبأ الرجل المسدس في قميصه، و خرج من البيت صباحا والشمس تصعد في السماء.