قصة قصيرة
يوسف عزيزي
من أين اتى ذلك الحيوان العجيب؟ من بين اشجار النخيل أو من شرفة القصر؟ كدت ان أُصاب بجلطة قلبية. فهذا الدخان الاسود واصوات المحرك،الكريهة و المؤذية، يمكن ان تيقظ جميع بهائم الوادي.
لاشك بان الأحراج، هي عرين لعشرات البهائم والسباع وأنا- بالطبع- لايهمني من هو في الاحراج. اشكالها تثير جنوني.
خصال خضراء منتشرة على ضفاف حمراء. لم استطع الوصول الى ضفتي النهر و صلصالها، حيث لو تمكنت لقمت بنحت تمثال لتركان خاتون و لوضعت محارتين بيضاوين في حدقتي عينيها. ينضح الزيت و الصبغ – عفويا – من أناملي؛ فلااتمكن من السيطرة على مشاعري الجامحة. ياليت كان غوغان قد جاء الى هنا قبل أن يسافر الى هاييتي. عالم بكر و غامض، لم يرسمه رسام ما في الدنيا من قبل. يجب ان تنظر بعيون أُنثوية الى هذا النخيل الباسق الفظ الخشن. شعور من البهجة يملأ عروق نهودي الزرقاء. يمكن ان أُسمي اللوحة: ” أرض الشمس و العنف”.
فهل تم استئناس ذلك الحيوان العجيب؟ ماأزال اشعر بالرجفة من خشيته. عندما أُحدق في المياه، أرى نفسي و اللوحة وأحاسيسي الملونة ترقص على سطحها. فتتحلل الالوان في المياه، لكن عروقي الزرقاء تبرز وكأنها اكثر شفافية من المياه.
يمتزج اللون الاخضر للوحتي مع اُخضرار الاحراج حيث أرى ضوء عيون تسطع من بينها؛ كادت أن تعمي عيني.
اقفز من الكرسى دون ارادتي، يفاجئني الخوف، فأقترب من تركان خاتون التي تحاول تهدئتي وهي تخاطب الحيوان الذي يقف أزاءنا:
– ” وريدة” وَلّي من هنا.
لم يذهب الحيوان العجيب بل زأر وتقرب منا. تخاطبني تركان خاتون:
– لاتقلقي، “وريدة” يريد ان يلعب معك، فهو يتغنج.
سألت في قرارة نفسي و الخوف يغمرني” أيّ غنج هذا؟”
يمد الحيوان جسده. و يحك ظهره بذيله، يفتح فمه، لتظهر اسنانه البيضاء.
ادنو من تركان خاتون أكثر فاكثر. انفاسها الممزوجة بانفاس الحيوان الدافئة تلامس وجهي. اشعر برطوبة في وجهي؛ فهل سالت دموعي خوفا من الحيوان؟
المس وجناتي، فالرطوبة من انفاس الحيوان. مسحت تركان خاتون يدها على ناصيته، زأر و وقف على رجليه، وقام بالدوران حول نفسه. اقذف بنفسي في حضن تركان خاتون، لأُخفي وجهي في تنورتها الطويلة. تقول لي: “انهضي مدام! وريدة حيوان غيرمؤذ”.
أرفع رأسي قليلا. يزأر بصوت مخيف، و شواربه تبدو كالإبر المسننة.
تقول تركان خاتون: يستغرب طفلنا هذا، انه جائع ايضا.
تدفع الحيوان الى الوراء لاتمكن من رفع رأسي من حضنها والجلوس الى جنبها. تقول لي مرة اخرى:
– لاتقلقي مدام؛ “وريدة” حيوان اليف.
يتقدم الحيوان، و يرفع يده ليصافحني، تراجعت بعض الشيء حيث اخذت أبحث عن مكان مأمون لأخبئ نفسي فيه. تركان خاتون تسليني. لم استطع النظر في عيونه الساطعة.
صفقت تركان خاتون وأحضرت الوصيفة، وقالت لها شيئا بالعربية.
عادت الوصيفة بعد هنيهة و معها صحن من اللحم الهبر لنعجة طرية. أمرتها تركان خاتون أن تنأى بالصحن منا قليلا. هرع “وريدة” الى الصحن. فقد تضاءل خوفي رويدا رويدا و تمكنت أن أُحدق جيدا بذلك الحيوان المثير. كان جسده مرقطا ببقع سوداء تبدو جميلة وبارزة على جلده الحنطي. قلت:
– انه نمر بالتأكيد.
– صحيح. فقد قمنا باصطياده قبل عام وذلك عندما كنا، أنا
و الشيخ، في رحلة صيد في الأحراج المحيطة بمدينة المحّمرة. فقد قمت بتأليفه، و أطلقت عليه اسم “وريدة” اي وردة الجوري الصغيرة. اصبح الحيوان مؤنسي الوحيد بعد رحيل الشيخ.
تساءلت في قرارة نفسي:” لماذا وردة الجوري؟” و حدقت في النخيل و الاحراج المجاورة.
انني ارى حاليا الاضواء تصدر من بين الاحراج، من تلك العيون لتنكسر، و تغوص في المياه بعد أن تصطدم بسطحها. فالمياه تفصلنا عن الاحراج.
فقد أُصيبت الباخرة بعطل فني، و رست امام هذه الاحراج الجميلة و الخافية للأسرار. انني أخشى هذه العيون الساطعة. أدعو الله ان يتم تصليح الباخرة كي يأخذنا معه هذا النهر العظيم معه. احضرت معي منصة تصوير، ووضعتها على ظهر الباخرة منذ ان غادرنا قصر “الفيلية” في ميناء المحمّرة؛ لكنني لم أتمكن من الرسم في كل اوقات اليوم. الامواج تحول دون ذلك، وإنني في الحقيقة ارسم على سطح الماء، اذ أرى عليه صورة لكل شيء ارسمه. كما ارى صورة الاحراج ايضا. يبدو ان رساما بارعا اكثر مني ينافسني في الرسم. لم اشاهد يديه لكنني أرى أثره على سطح الماء. فتتداخل الالوان و الخطوط بالقرب من ساحل النهر حيث لايمكن لي ان افصلها. يمتزج الشيء بالشيء. انني ارسم في الصباح
و المساء فقط لان الشمس المحرقة تنزع جلدي مني في باقي ساعات النهار. فهل علي أن أرسم تلك العيون المتلالئة في لوحتي؟ يجب أن ألقّن نفسي بانني لم أخش النمور.
حدق فينا النمر مرة اخرى بعد أن شبع من الطعام. يبدو ضاحكا
و راضيا منا. قالت تركان خاتون:
– الاحراج الواقعة على ضفاف نهر كارون تعج بالنمور.
واردفت: ” وريدة”، “وريدة” تقدم الينا.
ومن ثم لمست شواربه وقالت:
– تشبه شوارب الشيخ – الله يرحمه – كان يحب الحيوان هذا، يلعب معه، و يصارعه في بعض الاحيان. والانكى أنه كان يشرّبه عرق التمر، المعروف هنا ب”المْسَيّح” ليسكروا سويا. كانت مشاهد لطيفة مدام. فعندما كان يتنمر و يهاجم الشيخ، تهرع الخدمة اليه لتوثق يديه برجليه.
لوحت تركان خاتون بلحمة وهي واقفة، ليقف النمر على رجليه ليخطفها منها. زأر النمر بعد ان أكل اللحمة، و دار راقصا حول نفسه. تحاول تركان خاتون أن تشبعه كي لايزأر و يهاجم أحدا. سألت تركان خاتون:
– سمعت أن الانجليز ينوون تجفيف الاحراج و احراقها؛ هل هذا صحيح؟
فردا على سؤالي، سألتني:
– لماذا انتم الفرنسيين اول الذين تسمعون مثل هذه الأخبار؟
سألتها مرة اخرى: هل ينوون شق الطرق؟
– اذا نفذوا ذلك سيسيطرون على المنطقة، و يغلقون متاجركم في المحمّرة.
كما سألت: وماذا يكون مصير النمور؟
– واضح، سيتم القضاء على نسلهن.
– وما هو رأي الشيخ الشاب في هذا الصدد؟
– يعارض التجفيف مئة في المئة.
– لكنني واثقة بأن الانجليز سينفذون مخططهم. لاتزال هناك آثار قذائفهم على جدران قلعة المحمّرة. فهم يخططون لتعزيز نفوذهم
لقرن و نصف القرن بعد الان.
النمر ينظر الي؛ ربما يشعر بأنني افكر في مصيره؛ فهو جميل
و لطيف اذا لم يفتح فاه، و يظهر اسنانه.
انني مولعة بلون جلده، فعند غروب الشمس يتلألأ جلده الحنطي كعيونه الدموية. منذ فترة وهو يحدق بي بوقاحة. لعله ينتظر نومي. الله اعلم بما يفكرفيه هذا الحيوان. هل هو يخطط لأمر ما؟ ربما يتمكن ان يفرسني حين اكون وحدي، لكنه لم يستطع ذلك بوجود زوجي” المسيو” و خادمنا و فنيّ الباخرة. لم اكن أحلم يوما، أن أضطجع على المياه وبين المياه. فهل اكون الليلة فريسة لهذا النمر المتنمّر؟
وكم هي جريئة تركان خاتون التي قامت بتأليف النمر”وريدة” كقطة مدلللة ؟ الانسان الاليف يُحب الحيوان الاليف. الانجليز لايريدون أن تكون هناك بضعة متاجر فرنسية في هذه المدينة. فكم هي متكبرة جارية الشيخ هذه. ” كنت عزيزة الشيخ الكبير و أتقن اربع لغات: العربية و الفارسية و التركية و الروسية”. عندما كانت
تتفوه بهذا الكلام تبدو وكأنها كليوباترا الفرعونية.
ماذا كانت تفعل تركان خاتون لو لم يرحل الشيخ الكبير؟ لربما كانت تقوم بتعقيم النمور! فقد وصل الامر بالجارية التركية ان تقوم بتعيين خليفة للشيخ الكبير او الاخرون أن يختاره وهي تؤيد.
هم لايرغبون في الشيخ مزعل، و يقولون إن الشيخ خزعلا مطيع لنا. اياك اعني واسمعي يا جارة! لاجمل لي و لاناقة في الامر! انني رسامة فقط؛ و مفتونة بهذه الارض، اكتب رحلاتي، ليظهر كاتب آخر بعد مئة عام ليكتب قصة او مسرحية على أساسها. آه! اي خيال بعيد هذا؟ من هو حي في ذلك الوقت؟ لست واثقة بأنني أصل الاهواز حية في هذه الباخرة المسماة باخرة الشيخ الخاصة، و وجود كل هذه النمور التي تسرح و تمرح على طرفي نهر كارون.
عندما استقر الفنيّ وراء مقود الباخرة فهمت أنها تستعد للانطلاق.أغصان النخيل كانت تهتز بالرياح القوية و كأنها تسلم علينا بأيديها!
بقي النمر و تركان خاتون في القصر. و ستكون معي دائما حتى أصل باريس، هيبة النمر، و ذكريات النخيل و طعم البلح المر
و حلاوة الموز و البرتقال الذي أكلته في حديقة الشيخ.
يودعنا مزعل – او كما تصفه تركان خاتون، الشيخ الشاب – على يخته حتى وسط النهر. شقيقه الصغير كان الى جانبه؛ يبدو قلقا، لكنه كان يسعى لإخفاء قلقه بابتسامة ظاهرية.
فمن المحتمل أن يخبرنا القنصل عند وصولنا لمدينة الأهواز بأول نبأ، وهو غرق الشيخ الشاب في وسط النهر.