يوسف عزيزي
الحوار المتمدن-العدد: 597 – 2003 / 9 / 20
طهران – تسكن ايران و منذ فجر التاريخ، قوميات و اثنيات وشعوب مختلفة. فعلى سبيل المثال كانت الامبراطورية الفارسية في عهد الاخمينيين اي قبل 25 قرنا، تضم الشعوب الفارسية و العيلامية و الاشورية و البابلية وهذا مانشاهده في النقوش الصخرية المتعلقة بتلك الفترة.
وقد استمر الامر كلما توسعت او تقزمت الامبراطورية الفارسية في عهد السلالات التي حكمت هذه الامبراطورية قبل الاسلام كالسلوكيين و الاشكانيين و الساسانيين. وفي الحقيقة لم توجد قبل الاسلام لغة سائدة في ايران؛ كما و نفس اللغة التي كان يتحدث بها الفرس و المعروفة بالفارسية القديمة و من ثم الفارسية الوسطى لم تملك خطا خاصا بها و كلما نشاهده في النقوش الصخرية المكتشفة في نجد ايران هو اما بالخط المسماري السومري او الارآمي.
وقد ولدت اللغة الفارسية الجديدة من امتزاج اللغة الفارسية الوسطى اي اللغة البهلوية و اللغة العربية التي ولجت ايران مع الدين الاسلامي الذي اعتنقه الايرانيون في القرن السابع الميلادي.
غير ان اللغة الفارسية الوليدة لم تظهر فورا بعد الفتح الاسلامي للامبراطورية الفارسية بل انقضى قرنين من الزمن حتى ظهر اول بيت شعر باللغة الفارسية الجديدة على يد الشاعر الخراساني /وصيف السكزي/. و قد عرفت هذه اللغة بالفارسية الدرية (فارسي دري) لنسبتها الى ال”دربار” اي بلاط الملوك.
فلم يوجد في القرنين الاول و الثاني الهجريين اي اثر للغة الفارسية في ايران حيث كان الشعراء الفرس ينشدون الشعر باللغة العربية في تلك الفترة. وقد وصف القوميون الفرس هذين القرنين ب”دو قرن سكوت” اي قرنين من الصمت في ايران.
و قد دأبت الحركة الشعوبية الفارسية على اختراع اللغة الحديثة (فارسي دري) التي لاتمت بصلة بمايسمى باللغة الفارسية القديمة او الوسطى الا القليل جدا. اي ان الفرس حاليا لا يعرفون بتاتا اي شيء عن اللغة البهلوية ولا يستطيعون قراءة اي عبارة ولو صغيرة من تلك اللغة المندرسة.
وتضم اللغة الفارسية الحديثة نحو 20 في المئة من المفردات التركية و الانجليزية و الفرنسية و 60 في المئة من المفردات العربية و تصل ارومة المفرادات الباقية في اللغة الفارسية الى اللغة البهلوية. وينشد شعراء اللغة الفارسية، قصائدهم وفقا لاوزان الفراهيدي.
فوفقا للدستور الايراني ان اللغتين العربية و التركية الاذرية – علاوة على اللغة الفارسية – هما لغتان ايرانيتان بسبب وجود العرب الاهوازيين و الترك الاذريين في ايران و هم يشكلون نحو 35 في المئة من سكان ايران. فعليه انني هنا القي نظرة على تعامل اللغة الفارسية مع اللغتين التركية الاذرية و العربية في التاريخ الايراني. خاصة و ان العربية صار لها دورا هاما عقب الفتح الاسلامي لايران و هيمنة العرب الدينية و العلمية و الثقافية ابان العهد الاموي و العباسي.
وقد حاولت سلالات فارسية، تمردت على حكم الخلفاء في بغداد في القرن الثالث الهجري، كالطاهريين و الصفاريين و السامانيين لتعزيز مكانة اللغة الفارسية و الحد من رواج اللغة العربية. وقد ظهرت هذه الحركة اول ماظهرت في شرق ايران خاصة في ولايتي خراسان و سيستان.
و بسيطرة السلالة الغزنوية على ايران في القرن الرابع الهجري (الحادي عشر الميلادي) هيمن الاتراك على الحكم في البلاد. وقد حكم الاتراك، ايران خلال الالفية الثانية للميلاد دون ان يكملوا القرن العشرين حيث سقطوا في نهاية الربع الاول من ذلك القرن.
وقد تلى الغزنويين في الحكم، سلالات تركية كالسلجوقية و الخوارزمشاهية و القره قوينلو و آق قوينلو و الصفوية و الافشارية و القاجارية. و انقرضت هذه الاخيرة في عام 1925 على يد رضا شاه مؤسس السلالة البهلوية وهي السلالة الفارسية التي خلفت القاجاريين.
فالاتراك و برغم سيطرتهم على الامبراطورية الفارسية لمدة عشرة قرون تقريبا لم يقوموا باي تضييق على اللغات الاخرى الرائجة في تلك الامبراطورية. وقد كانت اللغة التركية في عهدهم، لغة البلاط و العسكر و نوعا ما السياسة و التجارة فيما كانت اللغة الفارسية، لغة الشعر و الادب واللغة العربية لغة الدين و العلم.
والمعروف عن الشاه اسماعيل الصفوي – مؤسس السلالة الصفوية في القرن الخامس عشر الميلادي في ايران- بانه قضى على الحكومات المحلية ووحد البلاد
و روج المذهب الشيعي كمذهب رسمي في ايران. و الشاه اسماعيل هو تركي من آذربيجان ايران وله ديوان شعر باللغة التركية الاذرية و مراسلات بهذه اللغة مع السلطان العثماني انذاك.
وفي هذه الالفية نرى شخصيات بارزة كابن سيناء و البيروني و الفارابي وهم اتراك ايرانيون كتبوا معظم اثارهم باللغة العربية. كما ان هناك الشاعر فضولي البغدادي ( المتوفي عام 970 هج) الذي كان ينشد الشعر بالعربية و التركية و الفارسية وله دواوين بهذه اللغات.
ولاننسى ان العديد من الشعراء الفرس في هذه الفترة مارسوا انشاد الشعر العربي الى جانب الشعر الفارسي و هذا مانراه في دواوين ناصر خسرو البلخي و العطار النيسابوري و حافظ و سعدي الشيرازيين.
كما كان للاكراد ايضا وفي تلك الفترة ادبا و شعرا و شعراء غير انهم ليسوا معروفين كالذين كانوا يكتبون بالعربية او الفارسية او التركية.
وبدخول الحداثة الى ايران في اواخر العهد القاجاري اي في اوائل القرن العشرين
قام الاتراك الايرانيون بدور طليعي في هذا المجال؛ وها هو العلامة رشدية – وهو تركي آذري – ينشئ اول مدارس حديثة في تبريز و طهران حيث كان يتم التعليم فيها و الى جانب اللغات الاوروبية، باللغات التركية و الفارسية و العربية. ونعرف ان مدينة تبريز هي عاصمة ولاية اذربيجان الايرانية و تقطنها اغلبية تركية آذرية.
كما ان اول صحف صدرت في ايران و في تبريز بالضبط كانت تصدر باللغتين التركية و الارمنية و من ثم باللغة الفارسية.
وقد غيرت السلالة البهلوية – الفارسية الاصل- العلاقة الندية بين اللغة الفارسية و سائر اللغات الايرانية و حولتها الى لغة رسمية و مهيمنة. وقد عمل رضا شاه البهلوي و المنظرين العنصريين التابعين له بتنفيذ سياسات ثقافية تهدف الى قمع اللغات الاخرى الرائجة في ايران وخاصة التركية و العربية وذلك خلافا لمسار التاريخ الايراني الذي شهد نوع من التعايش السلمي و التساوي بين هذه اللغات كما اشرنا آنفا.
فقد طرح رضا شاه الذي حكم ايران من 1925-1941 طرح شعار” شعب واحد، لغة واحدة” حيث حاول بذلك سحق اللغات و الثقافات الايرانية غير الفارسية.
ومما لاشك فيه ان ثورة الدستور في ايران كانت بداية لعملية انشاء ما يسمى بالدولة – الامة في ايران. غير ان رضا شاه الذي صادر الثورة لصالح اهدافه الخاصة وافكاره الاستبدادية حاول ان ينفذ هذه العملية باسلوب دكتاتوري قسري و بواسطة القومية المهيمنة و على حساب القوميات اخرى.
كما هناك اسباب اخرى ساعدت على هيمنة اللغة الفارسية و حذف اللغة التركية الاذرية، منها القوة الادبية للغة الفارسية و اندفاع ادباءها و شعراءها للحيلولة دون اندثارها امام اللغة العربية. صحيح ان الاتراك كانوا يحكمون ايران لمدة الف عام تقريبا و يشكلون نسبة كبيرة من سكان ايران لكنهم لم يسعوا لترويج لغتهم التركية كلغة رسمية في البلاد. اذ يمكن ان نقول ان هناك اتفاق ضمني و تاريخي غير مكتوب كان يسود العلاقات بين الفرس و الترك في ايران و هو ان يكون الحكم للاتراك و الادب و اللغة الرسمية للفرس.
ورغم حذف الاتراك من راس هرم السلطة في ايران في عام 1925، فان نفوذهم الاقتصادي و الثقافي لايزال محسوسا وهذا ما يفسر فقدان حركة آذرية سياسية قوية تتمكن من طرح مطاليب سياسية. اذ لاتتعدى مطاليب الاتراك الاذريين حاليا، القضايا الثقافية كالمطالبة بالتدريس بلغتهم في المدارس و الجامعات .. الخ.