الفكر الإيراني بين التراث والحداثة

يوسف عزيزي

الشرق القطرية 3 – 3 – 2004

إيران، دولة عريقة يصل تاريخها الطويل إلى آلاف السنين حيث كانت تعرف حتى أوائل القرن العشرين ببلاد فارس (برشيا) وهو اسم جاء أول ما جاء في كتب المؤرخين اليونانيين القدماء ك هرودوت وغزنفون. و”فارس” أو”بارس” هو اسم القومية التي استوطنت نجد إيران قبل 30 قرنا؛ إذ كان قبلها عدة شعوب تعيش حياة مسالمة قضت عليها السلالة الاخمينية (330- 559ق.م) التي توسعت من الهند غربا إلى اليونان شرقا بفعل استخدام ما يصفه بعض المؤرخين الفرس هنا بـ” الرمح الفارسي” و إراقة دماء الشعوب والبلدان المفتوحة. وقد قضى اليونانيون بقيادة الاسكندر الأكبر على الاخمينيين حيث أسسوا السلالة السلوكية (50- 312 ق.م) ومن ثم الاشكانية، حتى جاء الساسانيون ( 652- 224م) الذين هزمهم العرب خلال الفتوحات الإسلامية.

نذكر بأن إيران ورغم اسمها ” الفارسي” لم تكن عبر تاريخها الطويل دولة ذات قومية واحدة بل كانت ولا تزال تضم عدة قوميات غير فارسية.

وتطلق لفظة “التراث” عادة على كل ما أنتج في ثقافة أو حضارة ما عبر التاريخ وهي على عكس الحداثة التي لم يمض على عمرها بضعة قرون في الغرب واقل منه في الشرق. وتستند الحداثة أول ما تستند إلى العقل الناقد.

فالإمبراطورية الفارسية، بالرغم من منافستها العسكرية للإمبراطورية اليونانية ومن ثم الرومانية قبل الإسلام وخلافا لهما، لم تنتج لا فلسفة ولا تاريخاً ولا حتى أدب عظيم وكل ما في الأمر هو أساطير وطقوس دينية معظمها شفهي جمعها الشاعر ابوالقاسم الفردوسي في القرن الرابع الهجري إحياء اللغة الفارسية.

ويعتقد المفكر المصري سمير أمين انه وعقب فتوحات الاسكندر الأكبر سادت الفلسفة اليونانية- الغنية آنذاك- في أوساط النخبة الساسانية. فالاستبداد المطلق للأكاسرة وملوك الفرس لم يعط مجالا لأي تفكير عقلاني حر وفلسفي وذلك خلافا لما حدث عند الإغريق. واقتصرت الساحة الفكرية الإيرانية على النحل الفكرية الميتافيزيقية والتي تصنف عادة في سياق الفلسفة الشرقية كالزندقة المانوية (المنسوبة لماني) والثنوية الزرادشتية.

وبعد الإسلام أصبحت إيران مركزا للفكر الصوفي والعرفان وازدهرت فيها الشريعة وعلم الكلام الإسلامي. وأعني أن هذه النحل الفكرية كانت تسيطر على المجتمع الإيراني كتيارات فكرية رئيسية غير أن التيار المرتكز على العقل المنطقي والفلسفي لم يكن تيارا أساسيا ولم يتجذر في هذا المجتمع.

ويعتقد بعض الباحثين الإيرانيين أن العقل الإيراني أصيب بنوع من الامتناع في التفكير بعد آخر مفكر هو صدر الدين الشيرازي (الملا صدراء المتوفى 1050 هج)؛ ويبدأ هنا العهد الذي يعرف بعهد الانحطاط، ليس في مجال الفكر فحسب بل في مجال الأدب والفن أيضا.

فقد كان لهزيمة إيران وفقدانها العديد من المناطق التابعة لإمبراطوريتها في القوقاز خلال حربها مع الروس، كان لها وقعة الصدمة على الإيرانيين وذلك في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر أي في عهد الشاه فتح على القاجاري. فعندئذ استيقظ الإيرانيون وانطلقت مسيرة التحديث والتعرف على الغرب. غير أن التحديث أخذ طابعا عاما وجديا عند وصول الشاه رضا البهلوي إلى السلطة واستمر في عهد نجله الشاه محمد رضا البهلوي. ويعتقد بعض المحللين الإيرانيين أن السلطة في العهد البهلوي 1979-1925لم تهتم بالحداثة كما اهتمت بالتحديث. وقد تمت قضية التحديث (مدرنيزاسيون) والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل قسري ودون أن ترتقي إلى مستوى الحداثة (مدرنيته) أي التنمية في كل مظاهرها السياسية والاجتماعية والثقافية. ويبدو أن هذه القسرية التي شهدت ذروتها بعد ارتفاع إيرادات النفط في السبعينيات من القرن المنصرم، كانت احد الأسباب الرئيسية لسقوط نظام الشاه السابق. فقد حاول الشاه محمد رضا البهلوي فرض التنمية الاقتصادية والاجتماعية من فوق هرم السلطة على الشعب الإيراني. وكان الشاه المستبد سياسيا والمستغرب فكريا بعيدا عن فهم مشاعر شعبه حيث كان يتصور وبتطبيقه خطط التنمية الاقتصادية الطموحة يخدم هذا الشعب. وأدت هذه التنمية إلى توسيع المدن وانسلاخ الملايين من القرويين من بيئتهم الريفية. فلم تتمكن لا المؤسسات الحديثة التابعة للنظام الشاهنشاهي الحاكم ولا الأحزاب المعارضة من استقطاب هذه القوة الجماهيرية الفقيرة والمتمردة التي خرجت من قمقم التخلف القروي التاريخي. فالخطاب الملكي كان غريبا ومتباينا مع عقلية هذه الجماهير؛ كما ولم يكن للأحزاب المعارضة أي وجود علني بسبب تعرضها للقمع المتواصل والعنيف من قبل نظام الشاه. فعليه تمكن الخطاب الإسلامي القريب من عقلية الجماهير والذي لم تضرب مؤسساته كما ضربت نظيراتها الليبرالية والشيوعية والقومية، تمكن من استقطاب هذه القوة الجماهيرية الهائلة وتنظيمها واستخدمها لإسقاط خصمه الملكي.

وفي الواقع أن الخطاب الرئيسي للثورة الإسلامية التي انتصرت في إيران عام 1979 هو خطاب يستند أساسا إلى التراث الديني، ومستلزماته ولذا فانه خطاب شاذ في عالمنا اليوم ويتعارض مع الخطاب الحداثي العلماني السائد، إن كان شيوعيا أو ليبراليا رأسماليا.

وقد شهدت إيران خلال ربع قرن من عمر الثورة الإسلامية تطورا اقتصاديا في البنى التحتية في المدن والأرياف؛ ناهيك عن التطور السياسي والثقافي الذي ترافق مع ارتفاع عدد الشباب (75% من السكان هم دون الثلاثين) الذين يتأثرون بثورة المعلومات وهي أداة حداثوية مهمة وفاعلة.

وفي الحقيقة أن التنمية السياسية التي شهدت قفزة نوعية منذ عام 1997 أي عقب انتخاب خاتمي رئيسا للجمهورية ساعدت على تطور الحداثة في إيران غير أن الخطاب التحديثي لم يتمكن من هزيمة الخطاب التراثي كاملا بالرغم مما نشاهده من صراع مرير بين ممثلي هذين الخطابين على كافة الصعد السياسية والثقافية والاجتماعية.

وقد أظهرت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة أن إيران على حافة تطور نوعي هام، حيث أن المعسكر المتمسك بالتراث فكرا وعقيدة لم يتمكن إلا من استقطاب 50 في المائة من المؤهلين للتصويت في المجتمع الإيراني. وهذا يعني أن الخطاب التحديثي في معاركه المقبلة يمكن أن يحسب على 50 في المائة من شرائح المجتمع الإيراني وهي الشرائح الحديثة المقاطعة للانتخابات. لا بل انه يملك أكثر من ذلك لان العديد من المشاركين في الانتخابات لم يشاركوا فيها دعما للتقليديين بل تجاوبا مع نداءات خاتمي وبعض القوى الإصلاحية الأخرى التي لم تقاطع الانتخابات.

كما أن النتائج أظهرت أن الخطاب التحديثي، أكثر قوة وحيوية في العاصمة والمدن الكبرى وسيؤدي ذلك على حسم الأمور لصالحه على الساحة السياسية عاجلا أو آجلا.

جديد الموقع

الإستعلاء العرقي الفارسي ومعاداة العرب


حوار مطول لقناة الشرق مع يوسف عزيزي


ثورة الأحواز” توحّد الهتافات برحيل نظام الملالي”


جرائم لايمكن السكوت عنها


حول استقالة مستشار روحاني,مناظرة تلفزيونية


فيسبوك

تويتر

ألبوم الصور