الزمان 2003 – 6 – 24
( 1 )
نعني هنا بالشعر الحديث، الشعر الحر فقط بل الشعر الذي كتب وطبع ونشر في الفترة الزمنية الممتدة من أوائل القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة.
ونذكر ان الفرس قبل الإسلام لم يعرفوا الشعر كما عرفه الإغريق او العرب في العصر الجاهلي. أي انه لم يظهر شاعر فارسي في تلك الحقبة من التاريخ الايراني في مستوي الشاعر الإغريقي هومر او الشاعر العربي امرئ القيس لا بل وحتى أدني من هؤلاء.
وخلافا لباحثين إيرانيين يسعون لتصوير الإمبراطورية الفارسية في عهود ما قبل الإسلام وكأنها فترة ذهبية للأدب والحكمة وباحثين آخرين يصورونها وكأنها فترة قاتمة لم تشهد الا الفتوحات العسكرية وسلطة (الرمح الفارسي) أقول ان تلك الإمبراطورية وكما كانت أرضا قفراء للشعر والفلسفة لكنها شهدت تطورا في مجال الموسيقي وهذا ما كان رائجا في عهد الساسانيين وخاصة في فترة حكم الكسرى ابرويز. ويؤيد كلامي العديد من الباحثين الإيرانيين أبرزهم كريم كشاورز الذي يؤكد في كتابه (ألف عام من النثر الفارسي) ان الشعر الفارسي قبل الإسلام لم يكن موجودا الا بشكل فولكلوري ضعيف جدا.
وأقول ان الموسيقي الفارسية قد أثرت علي الموسيقي العربية في العهد العباسي وان ما نشاهده من مقامات كأصفهان ونهاوند وبنجكاه هي تثبت هذا الأمر.
لقد ابتنت اللغة الفارسية بعد الإسلام علي الأبجدية العربية حيث ساعدها استخدامها لأوزان الخليل بن احمد الفراهيدي ان تطور شعرها وان تقدمه علي مستوي عالمي كما رأيناه عند الشاعر الحافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي وجلال الدين الرومي والعطار النيسابوري وآخرين. وهذا ما حدث في الفترة من القرن الرابع وحتى التاسع الهجري لكن بعد ذلك شهد الأدب الفارسي.
وكالأدب العربي، فترة انحدار وانحطاط لم تنتهي الا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ثورة الدستور والشعر الفارسي
تشكل ثورة الدستور (1906 ــ 1908) انعطافا مهماً في حياة الإيرانيين سياسيا وثقافيا وأدبيا. أي انها وفي المجال الذي نحن فيه تؤشر الي انتهاء حقبة للانحطاط الأدبي ومستهل حقبة جديدة للحداثة الشعرية. غير أن هذه الحداثة كانت في المضمون اولا ولم تشمل الوزن والقافية الا بعد سنوات. وقد ركز الخطاب الشعري الفارسي في هذه الفترة أي منذ قيام الثورة وحتى أوائل عهد الشاه رضا البهلوي (1925ــ1941) علي مفاهيم خاصة كحب الوطن والوطنية ونقد الأوضاع الاجتماعية في البلاد.
كما وازداد استخدام الشعراء في هذه الفترة لمفردات مثل (الحرية) و(الوطن) و(الشعب) و(المرأة) و(الغرب) و(القانون) وهي لم تشاهد في قاموس الشعر الفارسي الكلاسيكي. وتعني الحرية هنا الديمقراطية الغربية التي أخذ يتعرف عليها الإيرانيون منذ أوائل القرن المنصرم. فيما كانت الحرية قبل ذلك أي في الشعر الفارسي القديم التحرر من السجن او انعتاق العبيد وأشياء من هذا القبيل.
كما ان مفردة (الشعب) وتحت تأثير الثقافة الغربية الوافدة أخذت تحتل مكان مفردة (الأمة) و(الملة) أي ان الشعراء والكتاب اخذوا يركزون علي مفهوم الشعب الايراني أي (ملت إيران) بالفارسية ويستخدمونه بكثرة في قصائدهم وإشعارهم وهو مفهوم سياسي مدني حديث بديل لمفهوم (الأمة الإسلامية) وهو مفهوم ديني قديم لم يناسب الفترة الجديدة لحياة إيران السياسية والثقافية.
وقد كثر الحديث عن (الوطن) في أشعار وقصائد هذه الفترة وذلك بعد ان أصبح لهذه المفردة مفهوم قومي محدد. ونحن نعلم ان الوطن عند المسلمين في حضارتهم الغابرة يختلف لما عليه حاليا من معني حيث كان يعني القرية او البلدة او المدينة التي يولد فيها الانسان.
واحتلت في هذه الفترة الزمنية من حياة الإيرانيين، قضية المرأة مكانا بارزا في الخطاب الأدبي والشعري ــ كما في الخطاب السياسي ــ لأول مرة بعد ان كانت القصيدة الفارسية في عهد القديم وعهد الانحطاط مشفوعة بصورة للمرأة باعتبارها الجنس الضعيف او الناقصة العقل او في أحسن الأحوال، محبوبة للشاعر.
وكانت المفاهيم الجديدة التي اشرنا عليها آنفا والتي شغلت بال الشعراء الإيرانيين في هذه الفترة مأخوذة من خطاب الثورة الفرنسية الكبرى (1789) والتي عمت أدبياتها، أصقاع العالم من غربها الي شرقها.
وقد نشاهد في هذه الفترة تيارات أدبية وشعرية منها القومية والشوفينية والانتقادية والشيوعية العمالية.
وخير مثال علي الاتجاهات القومية الفارسية في شعر هذه الفترة هو الشاعر (ملك الشعراء باهار) وهو من ولاية خراسان ــ شرق إيران ــ حيث قضي معظم حياته في العاصمة طهران وعمل أستاذا للأدب الفارسي في جامعة طهران منذ انتشاءها عام 1934.
وقد ركز ملك الشعراء في شعره علي الحضارة الفارسية قبل الإسلام كنموذج للحياة الجديدة للإيرانيين في القرن العشرين حيث تجلي ذلك في قصائده التي انشدها في عهد الشاه رضا البهلوي. وكانت بعض قصائد ملك الشعراء تصب في الخطاب السياسي الرسمي للدولة التي كان يتزعمها الشاه المذكور وهو أبو الشاه محمد رضا آخر ملوك إيران الذي اطيحت به الثورة الإيرانية في عام 1979.
وكان الشاه رضا البهلوي شديد الإعجاب بالاكاسري وملوك الفرس القدماء وحضارتهم قبل الإسلام ومروجا لتعالي العنصر الآري. وقد تأثر بذلك من الفلسفة النازية في عهد الزعيم الألماني آدولف هتلر الذي كانت تربطه به علاقات سياسية واقتصادية وثقافية واسعة.
ونذكر ان فئة من المثقفين الإيرانيين في هذه الفترة التي تزامنت مع انتصار الثورة الشيوعية في روسيا وقيام الاتحاد السوفييتي تأثروا بخطابها وأدبياتها منهم ابوالقاسم اللاهوتي.
كما كان الشاعر ميرزاده عشقي متأرجحا بين الخطاب الشوفيني الفارسي والخطاب الأدبي العمالي.
ومن أبرز الشعراء الذين سخطوا علي الوضع القائم في إيران هو ايرج ميرزا حيث انتقد في قصائده الوضع الاجتماعي والسياسي السائد آنذاك. ولم يسلم من نقده اللاذع لا الشيخ ولا الشاب ولا الشاه ولا الأمير، علما بأنه كان أميرا من عائلة القاجار المالكة التي ترعرع في أحضانها.
وقد اقتربت لغة الشعر في هذه الفترة من لغة الشارع أي اللغة العامية بسبب المشاركة الشعبية في ثورة الدستور التي استهدفت عرش الملوك المستبدين من عائلة القاجار. وقد أسست الثورة لخطاب أدبي وشعري قريب لنبض الشارع المنتفض علي ظلم الملوك.
( 2 )
نشاهد في عهد الشاه رضا البهلوي الذي يبدأ من العام 1921 ويستمر حتى العام 194 شعراء مخضرمين واكبوا ثورة الدستور وأدركوا عهد الشاه رضا البهلوي أيضا، منهم فرخي اليزدي وملك الشعراء بهار وابوالقاسم اللاهوتي. كما ظهر شعراء جدد مثل نيما يوشيج ورشيد ياسمي وصورتكر ومسعود فرزاد ورعدي آذرخشي والسيدة بروين اعتصامي.
وقد جثم في هذه الفترة، حكما شموليا دكتاتوريا تمثل بحكم الفرد الواحد هو حكم الشاه رضا البهلوي وظهر نوع من الإحباط تجاه فشل الثورة الدستورية في تحقيق أهدافها المتعلقة بالحرية والديمقراطية. وهذا هو الشاعر فرخي يزدي الذي خيط فمه في ما بعد رجال الأمن في أجهزة الشاه رضا البهلوي، بسبب قصائده الانتقادية والحادة ينشد قائلا:
عد الي ما كنت يا عيدا! فلا مجال كي يقوم أصحاب العزاء بالمعايدة فان الأجواء المحتقنة والمعتمة سياسيا للمثقفين والأحرار في البلاد أدت ببعض الشعراء اليساريين كي يتحسروا علي ما يجري في جارتهم الشمالية روسيا والتي كان يحكمها الشيوعيون حيث انشد ابوالقاسم اللاهوتي ــ والذي هاجر في نهاية المطاف مسقط رأسه إيران الي ارض السوفيت ــ قائلا:
اشرب الكأس يا مقيم ارض السوفيت
في سرور مدينة لا يوجد فيها لاشاه ولا شيخا
نذكر ان اليوتوبيا السوفيتية والتي عرفت في الغرب بدولة الستار الحديدي، كانت قبلة آمال العديد من المثقفين الإيرانيين حتى قبل ان يظهر حزب توده الشيوعي في الأربعينات من القرن المنصرم. غير انها انهارت بانهيار الاتحاد السوفيتي ولم يأسف عليها الا قلة من الشيوعيين الارتودكس.
فقد أفل نجم القصيدة السياسية الانتقادية الخاصة بعهد الثورة في فترة الشاه رضا البهلوي وذلك بعد أفول النضال السياسي والاجتماعي المباشر والذي أدى في زمانه الي استقرار النظام الدستوري في إيران.
وقد اخذ النضال الاجتماعي في عهد الشاه رضا البهلوي، أشكالا معقدة وملتوية بسبب تعطيله للعديد من مواد الدستور. وقد مهد الهدوء والسكون في الساحة السياسية الي حراك ونشاط في الساحة الأدبية حيث بلغت المواجهة بين التراث والحداثة في الأدب الفارسي وخاصة في الشعر، مرحلة هامة. ومن المعروف في إيران وسائر بلدان العالم الثالث انه وعندما تسكت السياسة يتكلم الأدب.
وقد ذكرنا في مقال سابق ان الحركات الاجتماعية والسياسية إبان ثورة الدستور أسفرت عن إدماج الأدب بالقضايا الملحة للمجتمع وهذا ما رأيناه في الشعر السياسي والثوري واستخدام المصطلحات العامية في الشعر وماشابه ذلك من أمور.
مخاض ولادة الشعر الحر
بلغ المجتمع الايراني في النصف الاول من القرن الماضي وبعد قرون من الصدامات والأحداث والحروب، بلغ مرحلة جديدة للتحول لم يشهدها من قبل.
وفي مثل هذه الأجواء لم يتمكن الأدب الايراني ان ينأي بنفسه عن هذه الأحداث الاجتماعية الهامة التي هزت الكيان الايراني. فعليه وعقب الهدوء النسبي التي أعقب التطورات السياسية والاجتماعية، طرحت النخبة الأدبية في البلاد، قضية الشعر الفارسي علي بساط البحث وتساءلت: الي أين يجب ان تسير الحركة الشعرية في إيران كي تلائم العلاقات الاجتماعية الجديدة؟
وسرعان ما ظهر موقفان في هذا المجال: الاول يبحث عن حداثة شعرية نوعية والثاني يعتقد باستمرار الشعر علي ما كان عليه قديما.
وقد ولد الشعر الحر او الشعر الحديث ــ شعر نو ــ كما وصف في إيران، ولد علي يد الشاعر نيما يوشيج؛ وهو من قرية (يوش) النائية في شمال إيران، حيث درس في العاصمة طهران وترعرع فيها لكنه ظل أمينا لبيئته الريفية والغابات والجبال التي قضي طفولته وأوائل شبابه فيها.
وقد اخذ السجال يشتد بين الأدباء المؤيدين لاستمرار الشعر الفارسي الكلاسيكي والموالين للشعر الحديث. إذ كان هؤلاء الحداثيين علي علم بالموجة الشعرية الجديدة التي بدأت من فرنسا وانكلترا ووصلت الي تركيا والقوقاز فيما لم يطلع عليها الأدباء التقليديون او غضوا الطرف عنها.
ولم يستقر الشعر الحر في أذهان الإيرانيين المأنوسين عبر القرون مع الشعر الكلاسيكي الموزون والمقفى الا بعد سنوات طويلة من النقاشات والسجالات التي غطت الصحف الأدبية.
وفي أواسط عهد الشاه رضا البهلوي، تشتت أمر الشعراء المناضلين الذين لعبوا دورا أدبيا وتحريضيا أوان الثورة الدستورية؛ حيث كان عشقي قد قتل وفرخي اليزدي رزح في سجون الشاه رضا واللاهوتي هرب الي الاتحاد السوفيتي.
وقد اقتفي الشعراء أسلوب التقية في الكلام وتحولت الصراحة في التعبير والقصيدة الثورية والانتقادية الي الكناية والإيهام الفني في القصيدة. إذ اتجه معظم الشعراء الي الانطوائية وحديث النفس وما الي ذلك من أساليب تقيهم من شر البوليس السري الملكي.
وقد يصف بعض النقاد انبثاق الشعر الحر في إيران بمثابة ثورة في الشعر الفارسي حيث أخذت تؤثر علي الذوق الأدبي والفني في إيران. ومثلما نزع الشعر الحديث، الزي القديم عن جسده، اخذ أيضا يبتعد في المضمون من مضامين الشعر القديم. أي لا نري مثلا في شعر نيما يوشيج وممن تبعه شيء من الغزل والقصيدة العرفانية او الصوفية التي كنا نقرأها في دواوين شعراء فرس عظام قدماء كحافظ الشيرازي ومولانا البلخي وعطار النيشابوري وسعدي الشيرازي. قحتي الشعر الملحمي قد تغير أيضا لما كان عليه في ديوان (الشاهنامة) للشاعر الملحمي الفردوسي الطوسي.
وقد نري مثلا في الشعر الحر والعرفاني الذي ينشده سهراب سبهري (المتوفي 1980) مزيجا من العرفان البوذي الهندي والياباني وهو يختلف تمام الاختلاف عن العرفان الإسلامي الخاص بالعطار او البلخي وهو عرفان له جذور في الفلسفة المانوية الإيرانية القديمة. او ان قصائد سيافش كسرائي (المتوفي 1994) الملحمية لا تشابه أبدا ملحميات الفردوسي وذلك بالرغم من استخدامها لرموز اساطيرية فارسية قديمة كان فردوسي يستخدمها أيضا في ديوان الشاهنامة.