يوسف عزيزي
ايلاف: الأربعاء 1 يونيو
كانت الثورة الايرانية في اول ريعانها، عندما ذُبح العديد من اهل المحمرة على يد المتشددين الدينيين المعادين للعرب ولم تستعد عافييتها بعد ذلك بل وزادت الحرب الايرانية – العراقية (80 – 1988) الطين بلة حيث اصبحت المحمرة، الساحة الرئيسية للنيران الصديقة والعدوة، وتم تدمير تلك المدينة الجميلة، عاصمة إمارة عربستان التاريخية ولم تقم الحكومات الايرانية المتعاقبة بإعادة بناءها بشكل ماكانت عليه سابقا. ويبدو ان السلطة الايرانية لاتنوي بناء هذا الميناء المطل على شط العرب والذي كان اكبر ميناء في ايران قبل الحرب الايرانية – العراقية، بل انها استغلت ظروف الحرب لتقوم باعمار مينائي بندرعباس وتشاه بهار ليكونا بديلا للمحمرة المهشمة.
وقد اخبرني صديق من تجار المحمرة، شردته الحرب الى طهران انه حضر اجتماع لغرفة التجارة الايرانية في عهد الرئيس الاسبق هاشمي رفسنجاني لبحث إعادة إعمار المحمرة التي يصفونها بالفارسية ”خورمشهر“. وبعد مناقشة الموضوع وتأكيد تجار المدينة بضرورة التسريع في إعادة إعمارها، اكد المسؤولون الايرانيون انهم لم يفعلوا ذلك بسبب الظروف الامنية غير المستقرة هناك. بل ينوون بناءها على مسافة خمسين كيلومترا بعيدا عن الحدود الايرانية – العراقية على ضفاف نهر كارون.
ويضيف صديقي: ان التجار المحمراويين عارضوا الفكرة بشدة مما ادي بالمسؤولين الايرانيين ان يوقفوا هذا المشروع. لكن وبعد مضي نحو ثلاثة عقود على نهاية الحرب الايرانية – العراقية، لاتزال ايران تتهرب من مسؤولياتها في اعادة إعمار المحمرة التي يعاني اهلها العرب من الفقر والبطالة والحرمان بعد ان كانت مدينة مهمة وميناء مزدهر. وقد شهدت المدينة 3 حروب طاحنة في حياتها خلال القرن ونصف القرن المنصرمين: حربين، بين ايران من جهة والعثمانيين والبريطانيين من جهة اخرى في القرن التاسع عشر، وثالثة ، بين ايران والعراق، في القرن العشرين.
المحمرة كانت عاصمة النضال القومي لأبناء الشعب العربي الاهوازي عشية الثورة الاسلامية وبعيد قيامها في ايران. وقد ارسل الزعيم الروحي لهذا الشعب رجل الدين الشيخ محمد طاهر الشبير الخاقاني في نهاية ابريل 1979 وفدا ثلاثينيا – انا كنت من ضمنه – الى طهران للتفاوض مع الزعماء الاسلاميين الجدد حول قيام حكم ذاتي خاص للعرب في اقليم عربستان؛ خاصة وان الاقليم كان يتمتع بهذا الحكم حتى اوائل القرن العشرين. غير ان رد السلطات الايرانية على مطالب الوفد جاء بعد شهر تقريبا اثر مواجهة قوات الامن الايرانية للمظاهرات السلمية للجماهير العربية بالمحمرة في 29 يونيو 79. اذ كان ردا قاسيا راح ضحيته المئات من القتلى والجرحى والمعتقلين والمنفيين. وقد قام انذاك حاكم محافظة خوزستان (اقليم عربستان) الجنرال احمد مدني المعروف باتجاهاته العنصرية قام بتلك الجريمة الشنعاء التي مهدت لقمع سائر القوميات غير الفارسية، بل والاحزاب المعارضة لحكم رجال الدين الاستبدادي في ايران.
لم يتمكن قادة طهران من اخماد احتجاجات و مظاهرات الجماهير في المحمرة بسهولة في تلك الايام الساخنة، لو لم تكن هناك عدة اسباب: اولا وجود اقلية غيرعربية استوطنت المدينة بعد سقوط الامير خزعل بن جابر، آخر حاكم عربي لاقليم عربستان في 1925. اي ان معظم الذين اجتمعوا في اطار مايسمى بالمركز الثقافي العسكري (كانون فرهنكي – نظامي) ولعبوا، الى جانب القوة البحرية، دور اساسي في قتل وجرح المتظاهرين، كانوا من المهاجرين الفرس. ولاننسى بعض العرب الذين وقفوا الى جانب القوى القمعية ولايزال يشاركون في ذلك.
في الحقيقة، موضوع الاقلية غير العربية في مدن عربستان لاتزال تشكل مرتكزا للسلطة الايرانية في مواجهة اي انتفاضة وعصيان مدني يهدف الى نيل الحقوق القومية للشعب العربي في ايران، خاصة وانها تعاظمت خلال العقود الاربع الماضية. البعض يعتقد ان هذه الاقلية لم تستطع اي تفعل شيئا في ساعة الصفر امام الاغلبية العربية، اي عندما تكون الظروف مساعدة للانعتاق. غير ان التجارب الماضية وخاصة الحرب العراقية – الايرانية اثبتت انه حتى ابان الحرب الضروس التي ادت الى هروب الملايين من الناس من المدن الكبرى كالمحمرة وعبادان والخفاجية والسوس والاهواز، غادر الجميع – العرب وغير العرب – هذه المدن وليس الفرس فقط.
فقد اثارت السلطات الايرانية في العام 1979 نفسه الاقلية التركية الأذرية ضد الاغلبية التركمانية في اقليم التركمان (تركمان صحراء) في شمال شرق ايران، وكذلك اثارت حزازات ومواجهات عنيفة في نفس العام بين الاتراك والاكراد في المدن التي يقطنها العنصرين التركي والكردي في شمال غرب ايران، ولايزال تتبع نفس الاستراتيجية وبجدية وشدة اكبر في عربستان والمناطق الاخرى للقوميات غير الفارسية.
فلم تنهض لا المحمرة ولا التركمان بعد ذلك القمع الوحشي رغم حصول ثغرات في الحكم الاستبدادي في ايران، كما حصل في عهد خاتمي وبنسبة اقل في عهد روحاني. اي اننا شهدنا في العقدين الاخيرين، حراك سياسي وثقافي بل ومسلح في اقاليم أذربيجان وكردستان وبلوشستان، لكن لم نشهد ذلك في اقليم التركمان. وفيما يخص اقليم عربستان، لم تشهد المحمرة – ولاعبادان – حراكا كما شاهدناه في الاهواز العاصمة او حتى في مدن اصغر منها كالحميدية والخلفية والسوس ومعشور.
وفي تلك الفترة اي منذ الهجوم الشرس على المتظاهرين العرب بالمحمرة في 29 يونيو 79 وحتى نفي المرشد الروحي للعرب الشيخ محمد طاهر الخاقاني في نهاية يوليو من نفس العام، لم نشهد تعاطفا مشهودا من العرب انفسهم في المدن الاخرى بما فيها الاهواز العاصمة والسبب يعود الى هيمنة الخطاب الديني وسطوة الخميني كرمز لهذا الخطاب اولا، وثانيا دعم معظم الشخصيات والمنظمات السياسية المعارضة انذاك لما قام به الجنرال مدني من اعمال قمع وبطش ضد العرب في مدينة المحمرة، بما فيهم رجل الدين البارز اية الله محمود الطالقاني وحزب توده الشيوعي. ولم تندد بمجزرة المحمرة الا منظمة واحدة تعمل في مجال حقوق الانسان وعدد من المنظمات اليسارية الصغيرة. كما ان العالم العربي – ماعدى الاعلام العراقي – اتخذ الصمت شبه المطلق ازاء تلك المجزرة.
رابعا، الشارع الاهوازي كان منقسما بين مؤيدي رجل الدين الشيخ محمد الكرمي ومعظمهم في الاهواز والخفاجية والحويزة وبين مؤيدي الشيخ محمد طاهر الشبير الخاقاني ومعظمهم في المحمرة وعبادان. اذ ساند محمد الكرمي وشقيقه علي الكرمي، الجزار احمد مدني وعارضا مهمة الوفد الآنف الذكر الذي اوفده الشيخ الخاقاني الى طهران. وقد استغلت السلطة في طهران، هذا الشرخ لتقضي ليس على الحراك القومي المتوقد في المحمرة بل وعلى كل الحركة القومية في الاقليم حيث اضطرت المجموعات الناشطة الى الهجرة او العمل السياسي والثقافي السري مثل اصدار صحيفة الكفاح وماشابه ذلك من امور.
فخلافا لماوقع في العام 1979 في المحمرة ووقفة اللامبالاة من قبل المدن العربستانية الاخرى، فاننا شاهدناه نوع من التعاطف مع الاهواز العاصمة في انتفاضة جماهيرها في 2005 حين انتفض العرب في مدن الحميدية والفلاحية ومعشوروالحويزة تضامنا مع ابناء جلدتهم في الاهواز. وقد تطورت هذه الظاهرة التضامنية في الاعوام الاخيرة وبمناسبات مختلفة. اذ يقع الدور الرئيسي على عاتق نشطاء مدينتي المحمرة وعبادان ان يبذلوا جهدا اضافية لتلتحق هاتين المدينتين العريقتين بمسيرة الكفاح الاهوازي الهادف الى استعادة الحقوق المهضومة للشعب العربي الاهوازي.