يوسف عزيزي
يتكون المجتمع الأهوازي كأي مجتمع انساني من طبقات وفئات اجتماعية لها مصالحها الاقتصادية المتباينة لكنه لم يشهد تناحرا اجتماعيا جليا كما هو في المجتمعات الحرة وذلك بسبب رزوحه تحت أغلال هيمنة الآخر.
فالمسافة الزمنية التي تفصل إنشاء الدولة الأهوازية المشعشعية عن العهد الحديث – الذي بدأ بسقوط القسطنطنية في ١٤٥٣- لاتتجاوز ال ١٧ عاما، فلذا يمكن ان نعدُها ضمن هذا العهد الذي يختلف مع مثيلاته السابقات في التاريخ الأهوازي القديم.
بادئ ذي بدء ينبغي التأكيد ان مملكة عربستان لم تعرف في تاريخها بعد الإسلامي ظاهرة الإقطاع والملكية الكبيرة للأرض كما كان رائجا في سائر المناطق، إن كانت في إيران او بلدان أخرى، بل ومنذ العهد العباسي اصبح نظام الأراضي الأميرية (أراضي خالصه بالفارسي) هو النظام السائد، أي ان الدولة هي التي كانت تملك معظم الأراضي في جنوب وغرب عربستان. اذ لانشاهد ملاك يملكون عدة قرى او اقطاعات او أراضي شاسعة كما كان في بلاد فارس. فعلى سبيل المثال، في الخمسينيات من القرن الماضي كان احد اكبر الملاكين، الشيخ خلف الحيدر يمتلك نحو ٣٠ الف هكتار من الأراضي في منطقة القوماط بمدينة السوس ، صادر نظام الشاه محمد رضا البهلوي نحو ٢٥ الف هكتار منها لإنشاء مشروع قصب السكر، والشيخ احمد الزيارة يمتلك اكثر من ٥ آلاف هكتار في منطقة الخفاجية؛ فلذا لم يشمل برنامج الإصلاح الزراعي الذي قام به الشاه السابق الا ٢٥ في المئة من القرى في عربستان.
فلم نعرف عن الوضع الاجتماعي والطبقي في عهد المشعشعين الا القليل، لكن ما يهمنا هنا هي الفترة الممتدة من أواسط القرن التاسع عشر الى يومنا هذا.
تراتبية اجتماعية
ويمكن ان تكون هذه الدراسة، مقدمة لدراسات أوسع تشمل فترة المشعشعين ايضا. لذا اكتفي هنا بالإشارة الى تلك الفترة التاريخية لاؤكد ان هناك تراتبية اجتماعية يقع على رأسها المولى او السلطان او الحاكم، وتشمل العائلة المالكة، يليها امراء الجيش الذين كان يقودهم عادة المولى بنفسه، ومن ثم كتاب البلاط الذين يوصفون ب “الخواجات” – او الخوايات في اللهجة الأهوازية – وكذلك شيوخ الإسلام وهي فئة تماثل نظيرتها في الامبراطورية الصفوية. وبين هذه الطبقات الممتازة والطبقات الدنيا يقع التجار وادنى منهم الشرطة والعسس والعطارون والبقالون والدرزة (الخياطون) والحدادون والصفارون والصاغة – ومعظمهم من الصابئة – والنجارون والعلافون والحائكون وأصحاب الحرف الأخرى؛ ويقع في قاعدة الهرم، المزارعون والفلاحون العاملون في حقول القمح والشعير والبقوليات وعمال سلخ الجلود والبساتين وماشابه ذلك. وقد استمرت هذه التركيبة الاجتماعية في عهدي الكعبيين والبوكاسب الذين احتلت زراعة النخيل في الفلاحية والمحمرة وجزيرة الخضر(عبادان) جزء كبير من اقتصادهم قبل اكتشاف النفط وتزامن عهدهم مع رواج زراعة القطن والأفيون (الترياك) ومحاصيل اخرى. كما شاهدنا تطورا في مجال تربية المواشي والتجارة الداخلية والخارجية حيث بلغت التجارة البحرية ذروتها في عهد الامير خزعل بن جابر في الربع الأول من القرن العشرين، مما جلبت له لقب ‘ملك التمر’ كما يقول المؤرخ الإيراني احمد الكسروي.
وإثر اكتشاف النفط في منطقة مسجد سليمان الواقعة شمال مملكة عربستان وإنشاء مصفاة عبادان في العام ١٩٠٨، ظهرت الطبقة العاملة الصناعية لأول مرة في المملكة بعد ان كانت تقتصر على العمال الزراعيين وعمال البناء والموانئ والمدابغ. وقد هاجر العديد من اللور والبختيارية والبندرية والتنكستانية الى الإقليم وخاصة عبادان للعمل في المصفاة والمنشأت النفطية الأخرى مما أسس لظاهرة ‘الأقلية غير العربية’ التي استشرت بعد سقوط الحكم العربي في عربستان عام ١٩٢٥، واخذت تشكل مستوطناتهم، خطرا على وجود العرب في موطنهم التاريخي كما هي المستوطنات اليهودية في فلسطين.
وقد ادى هيمنة العنصر الفارسي على السلطة في الإقليم الى تدمير الطبقة الارستقراطية الأهوازية وتهميش الطبقات الاجتماعية الأخرى والأهم من ذلك حالت دون التطور الذاتي والمستقل للبرجوازية الأهوازية كما حدث لمثيلاتها في العراق ودول الخليج ومن ثم للاكراد في العراق.
وقد فتح الحكم البهلوي (١٩٢٥-١٩٧٩) الباب على مصراعيه على الهجرة العمالية وغيرالعمالية – العادية والمخطط لها – الى مملكة عربستان، التي تحولت الى محافظة وتغير اسمها الى خوزستان.
الطبقة العاملة
وباتت مناطق عبادان والأهواز والعميدية – ومصفاة عبادان خاصة -حقلا خصبا للعمل السري للحزب الشيوعي الإيراني (حزب كمونيست ايران) ومن ثم النشاط العلني لحزب توده (بعد تأسيسه في ١٩٤١). اذ لم تكن الطبقة العاملة، عربية خالصة بل مزيجا من العرب وغير العرب، رغم ان الاغلبية كانوا عربا دوما. وقد تستر حزب توده على الاضطهاد القومي للشعب العربي، بل وناهض الحركات القومية هناك وركز جل جهوده على القضايا العمالية بحوافز عرقية وبحجة ضرورة تفوق الامر الطبقي على الامر القومي، فيما كان يساند حركات قومية في محافظتي أذربيجان وكردستان آنئذ.
ويتصدر اليسار غير العربي حاليا قيادة الحراك العمالي النشيط في القوماط (هفتبه) ويؤثر على الحراك العمالي في الأهواز وعبادان ومعشور ومدن أخرى، فاذا استثنينا القيادة العربية لعمال شركة فولاذ بالأهواز يمكننا القول ان ابتعاد الأغلبية العمالية العربية من قيادة الأضرابات والاعتصامات يعود الى عدة أسباب منها عدم اتقانها اللغة الفارسية والادبيات العمالية واليسارية والأهم من ذلك لصق تهمة الانفصال اليهم من قبل الاستخبارات الإيرانية، أي إنفصال عربستان من إيران أو ‘تجزئة ايران’ كما يصفونه.
والملفت في الامر ان السلطة الإيرانية التي صادرت في الخمسينيات من القرن الماضي عشرات الهكتارات من أراضي القوماط من اياد أصحاب الأرض – وهم من سلالة حكام إمارة آل كثير الواقعة شمال عربستان – غيرت اسمها العربي الى اسم ‘هفتبه’ الفارسي وحولتها الى مستعمرة صناعية – زراعية، يناضل عمالها، ومعظمهم من أبناء منطقة أل كثير، من اجل حقوقهم المغصوبة. وقد نفذ نظام الشاه، ذلك تحت يافطة تحديث الزراعة، غير ان هذا التحديث تم بواسطة سلطة الاستعمار الداخلي وأجهزته وبلغة غير لغة الشعب المستعمَر وبهدف إضعاف الوجود العربي في عربستان ومحو هويته العربية.
الطبقة الوسطى والأقلية النافذة
وأما الطبقة الوسطى الأهوازية التي لم يسمح لها الشيخ خزعل – وقبله الشيخ مزعل – بالانبثاق في عهدهما حيث كان الهرم الاجتماعي يتكون من طبقتين أساسيتين: ارستقراطية حاكمة متحالفة مع فئة كبار التجار – معظمهم مهاجرون غير عرب – من جانب، واغلبية من الفلاحين الذين تربطهم علاقات عصبوية مع الحكام وشيوخ القبائل. فلم يقم هؤلاء الحكام بمبادرات تساعد على انبثاق طبقة وسطى أهوازية كإنشاء المدارس للناس والسماح بنشرالكتب والصحف وإيفاد الشباب للدراسة في الجامعات الأوروبية واللبنانية. هذا ما أدى في المجال النضالي الى تأخر كفاح شعبنا في استخدام الاساليب التنظيمية والبرامج السياسية الحديثة المتطابقة مع متطلبات العصر وابقاءه حبيسا للعقلية القبلية والحركات العشائرية المتمردة قوميا خلال العشرينيات حتى الخمسينيات من القرن العشرين.
وتُعد الطبقة الوسطى الأهوازية المحرك الرئيسي للحركات القومية في المدن الصناعية خلال العقود الست المنصرمة فيما لم تهتم الطبقة العاملة ورغم مشاركة بعض عناصرها في تلك الحركات بانتماءها القومي كثيرا الا بعد قيام الثورة في فبراير ١٩٧٩، وهي لاتزال تتأثر بالخطاب اليسار الإيراني ربما بسبب دعمه لها ووهن العمل التنظيمي والنظري للمجموعات السياسية الأهوازية.
وقد سددت الثورة، لكمة قوية للخطاب الفارسي المتشدد وفتحت مجالا لابأس به للحراك الثقافي بل والاقتصادي ايضا. اذ ولجت عناصر عربية، السوق – الذي كان شبه محتكر من قبل الاقلية غير العربية – والقطاعات الاقتصادية الأخرى، خاصة في العاصمة الأهواز. وفي قترة الإصلاحات (١٩٩٧-٢٠٠٥) في إيران، شاهدنا تطورا للوعي القومي السياسي مترافقا مع الوعي القومي الاقتصادي. اذ شجع سيطرة العرب ولأول مرة على مجلس بلدية الأهواز في العام ٢٠٠٣ ان يدخل العرب مجالات اقتصادية لم يتجرأوا على ولوجها سابقا.
وتلعب الأقلية النافذة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وامنيا دورا بارزا للحفاظ على الهيمنة الفارسية على شؤون الإقليم؛ ولم ننس دورها الضارب في احداث المحمرة الدامية بعيد قيام الثورة حيث لعبت دور الطابور الخامس لسلطة طهران والحاكم العسكري للإقليم الجنرال احمد مدني وشاركت بقوة في قمع الحراك القومي المطالب بحقوق الشعب الأهوازي في أوائل صيف ١٩٧٩. وقد احتضن هذا الشعب، الأقلية غير العربية طيلة عقود وفي كل مدن عربستان.
كما ان الخطاب القومي الفارسي تحول بعد الثورة الى خطاب معارض، غير انه تمكن بالتدريج من تكوين مايسمى بالدولة العميقة التي تحيط بالدولة الفعلية في إيران.
مؤشرات التطور
فرغم كل الاحداث الأليمة التي يشهدها الإقليم، غيران هناك تطورات اجتماعية وثقافية واقتصادية لصالح الكينونة والهوية العربيتين نؤشر الى البعض منها. فأهم مؤشر في هذا المجال هو اقتصادي واعني الغرف التجارية التي كانت حكرا على الأقلية غير العربية قبل الثورة.
لقد شهد عام ١٩٢٨ إنشاء اول غرفة للتجارة في الأهواز تحت عنوان ‘غرفة تجارة الناصرية’. وقد تحول اسم الناصرية الى الأهواز في العام ١٩٣٥.
كان أعضاء لجنة الإدارة لغرفة تجارة الأهواز في العام ١٩٥٨ كالتالي: محمد حسن كميلي (رئيس)، عبدالله فتحي، مهدي نقشينه بور(نائب رئيس)، محمد حسن افتخار، ومحمدرضا دهدشتي (سكرتير) ومصباح (امين صندوق). وفي العام ١٩٧٥ أي اربع سنوات قبل الثورة: محمد حسن كميلي (رئيس)، عبدالله فتحي (نائب رئيس)، مهدي نقشينه بور(نائب رئيس وممثل الغرفة في غرفة إيران)، واحمد كميلي زاده (امين الصندوق)، وهادي افتخار(سكرتير). فلايوجد أي عربي بين أعضاء لجنة الإدارة، اذ يمكننا القول ان نحو خمسة وتسعين في المئة من أعضاء هذه اللجان كانوا من غير العرب قبل الثورة غير ان الوضع تغير بشكل اساسي خلال العقدين الأخيرين.
وتتشكل لجنة الإدارة في غرفة تجارة الإهواز حاليا من: سيروس عبياوي، سيد سلطان حسيني امين، شهلاء عموري، نعمت الله نوري زاده كلنكشي، مهدي رحيمي، علي حمولي طرفي، محمد جواد اماني، عبدالله شماخته، صادق سواعدي، نادر بهشتي نسب، شاهرخ شيشة كر، هبت اله اصولي، شريف عجرش، خيرية نيسي، محمد عبياوي. ويشكل العرب نحو ٧٠ في المئة من أعضاء لجنة الإدارة لغرفة التجارة في الأهواز قياسا بصفر في المئة في اخر دورة قبل الثورة. والأمرأتان الوحيدتان في اللجنة هما عربيتان، اذ كانت شهلاء عموري ترأس لجنة الإدارة في الدورة السابقة. كما ان هذا يؤكد دور المرأة الأهوازية المتصاعد ليس في المجال التجاري بل المجالات الاجتماعية والثقافية والأدبية الأخرى.
ويشكل العرب مئة في المئة من أعضاء لجنة إدارة غرفة التجارة في المحمرة والتي يرأسها حاليا هاني الفيصلي. فيما تتأرجح لجنة إدارة غرفة التجارة في عبادان بين اغلبية عربية وأخرى غير عربية حسب الفترات، غير ان الأغلبية حاليا لغير العرب. فلاتوجد غرف للتجارة في مدن عربستان الأخرى.
فاذا قارنا بين عدد العرب في غرفة التجارة في مدن عربستان بين فترتي قبل وبعد الثورة يمكن ان نشاهد التباين البارز في الحالتين.
لقد استولت الاقلية غير العربية – تاريخيا – على نقابات المهنيين كنقابة المصورين ونقابة أصحاب محلات الذهب ونقابة أصحاب المطاعم ونقابة أصحاب المخابز ونقابة تجار المواد الغذائية ونقابة تجار الأجهزة المنزلية ونقابة تجار الزجاج ونقابة تجار الكهرباء والإلكترونيات ونقابة أصحاب الأكشاك ونقابة أصحاب محلات الخليوي وماشابه ذلك. فالسبب الأهم في ذلك عدم إتقان التاجر الصغير العربي (الكاسب) للغة الفارسية، الضرورية للتعامل مع دوائر السلطة. على سبيل المثال يهيمن الاصفهانيون على نقابة الأجهزة المنزلية في مدينة عبادان والبختياريون على نقابة أصحاب الاكشاك في مدينة الأهواز.
كما يشكل المحامون العرب، اغلبية المحامين ليس في الأهواز العاصمة فحسب بل في نقابة المحامين في كل اقليم عربستان (خوزستان) وذلك قياسا بقبل قيام الثورة، حيث لم يشكل المحامون العرب الا عدد قليل من كل المحامين في الاقليم، وهذا يؤكد أيضا التطور الملموس الذي شهدته الطبقة الوسطى الأهوازية. وهنا – كما في غرفة التجارة – ينقلب المخروط راسا على عقب، وتصبح الأغلبية العربية في الاقليم هي الاكثرية في هذه المؤسسة المدنية قياسا بعهد الشاه حيث كانت الأقلية غير العربية تشكل الأغلبية الساحقة في نقابة المحامين في الاقليم. وللمرأة العربية حضور محسوس في هذه النقابة.
وفي المجال الثقافي اقدم مثالا عن هذا التطور يتعلق بنشر الكتاب العربي في الاقليم. فمن خلال متابعتي تبين لي ان نشر الكتب العربية تشكل نحو ٣٠٪ من الكتب الصادرة في الاقليم و٧٠٪ باللغة الفارسية، فيما تبلغ نسبة نشر الكتب التركية الأذرية ٢٠٪ في أذربيجان والكردية ٢٥٪ في كردستان حسب الاحصائات الرسمية. كما اذا قارنا ذلك بقبل قيام الثورة نرى ان النظام الملكي لم يسمح بنشر اي كتاب بهذه اللغات في تلك الاقاليم الثلاث.
كما تفيد إحصاءات غير رسمية انه يوجد حاليا (العام ٢٠٢٠) اكثر من الف اهوازي حصل على دكتوراه (بي اتش دي) واكثر من عشرة الاف على الماجستير واكثر من مئة الف على بكالوريوس الى جانب عدد اكبر من خريجي الثانويات والمعاهد.
لاشك ان الشعب الأهوازي لايزال في بداية الطريق، ومن المؤمل ان ينتهي الى بناء كيانه القومي والوطني غير ان النخبه الاقتصادية والثقافية في الداخل اخذت تثق بنفسها وبقدراتها الذاتية اكثر فاكثر، والى جانبها شعبا يخوض صراعا يشبه عمليات الكر والفر يخسر في بعض المواقع ويتقدم في مواقع اخرى.
نُشر في صحيفة “اندبندنت عربية” بتاريخ ٦/٩/٢٠٢٠