قلت لصاحبي شِم النخيل، شِم المياه،شِم السماء، شِم الوجوه، هل تستشم رائحة اجدادنا؟ انا أستشمها بكل جوارحي واذوقها بفؤادي، طعم العروبة هنا في ملقة المدينة الأندلسية المستلقية على اجنحة البحر والنخيل وسادس اكبر مدينة إسبانية حاليا.وصلنا الى مطارها والشمس في كبد السماء، كلمتني بلغة النور قائلة ” يا عزيزي انت في ارضك، في وطنك الضائع، شاهد واعتبر، انتم اقدم من عرب الأندلس في دياركم، فلايمكن لعدوكم ان يستأصل وجودكم الا اذا تهاونتم وأذعنتم للذل والتمييز، كما تهاون ابوعبدالله محمد الصغير في القرن الخامس عشر مع الملك فرناندو إيزابيلا – ملك غشتاله واراغون- مسلما مفاتيح غرناطة، عاصمة الأندلس للملك الإسباني، بل والأحقر من ذلك رفض فرناندو ان يقبل محمد الصغير يده واضطر ان يهاجر الأخير الى المغرب ويموت هناك. أينما حلينا خلال الايام التي قضيناها هنا ( من ١٥-١٠ تموز ٢٠١٩) شاهدنا الملامح العربية في المباني والقصور والبشر ولم يستطع الإسبان ان يمحو المعالم العربية الباقية من ثماني قرون حكم العرب هنا بل وأحيانا لم يريدوا ذلك. ويمكن القول ان الإسبان لم يغيروا الاسماء العربية الا القليل منها وهذا ما شاهدته خلال جولتنا في عرض الأندلس وطوله، من ملقة عبورا بغرناطة و مربية وحتى جبل طارق. وهذا غيض من فيض من الاسماء العربية التي رأيتها هناك: ظفرية، غرناطة، قرطبة، مرية، مربية، بني ياس، الميجرى، طريفة، رميلة، الحمى، مرسية،عطرفة، الموجية،الجزيرة الخضراء ( هذه كانت مسجلة بالعربي على لوحات الطرق) وشاهدت اسم “ريو گوادالمدينة” اي نهر غواد المدينة ويبدو ان الكلمة نصف رومانية ونصف عربية. وللمقارنة بين تعامل الإسبان والفرس مع العرب، اذكر هنا حديث دار بيننا – انا وصديقي هادي الطرفي – وبين مرشدة سياحية إسبانية في الفندق الذي سكنا فيه ويبعد بالسيارة نحو نصف ساعة من مدينة ملقة وعشرة دقائق من مدينة مربية. قلت لها انك تبدين من جذور عربية بسبب حكمهم هنا لقرون. لم تنفي ذلك بل اكدت على ما قلته دون وجوم، واضافت ان رواج الاسماء العربية للمدن والأحياء والأنهر لايختصر على الأندلس بل هناك اسماء عربية في شمال اسبانيا كانت تابعة للحكم العربي لم يتم مسها. فقد أخذنا منها معلومات حول الاندلس ومدنها ومعالمها الأثرية واعربت لها عن إعجابي بعدم تغيير الاسماء العربية الى الإسبانية. وهنا خاطبت هادي وقلت له بالعربي:تصور اذا قلنا هذا الكلام لفارسية لتكبرت وزعلت ولشتمت العرب ونعتتهم بنعوت معروفة لدينا نحن الاهوازيين ” انا لست من أكلة السحليات”، “انا امقت العرب” و”انا وهؤلاء الوحوش الصحراويين؟” وماشابه ذلك. يبدوا ان الشعب الإسباني وبعد محاكم التفتيش التي أقامها حكامها ضد المسلمين والعرب بعد سقوط غرناطة تحول بالتدريج – وخاصة في العقود الأخيرة – الى التسامح وقد تحررت الأجيال الإسبانية من تلك العقد التاريخية وهذا التطور لم نراه مع الأسف في حالة الفرس. شاطئ البحر المتوسط في المدينة التي اطرقنا فيها رملي مناسب للسباحة وانا احب هذه الرياضة كثيرا. اذ سبق وسبحت في تونس في نفس البحر الأبيض المتوسط وفي مسقط في المحيط الهندي وفي اوزبورن بريطانيا في المحيط الأطلسي وبحر قزوين وعدة انهر في ايران، وبما ان غرفتي كانت مطلة على البحر استمتعت بشروق الشمس وغروبها ومغازلتها مع البحر الفضي والمشاهد الخلابة التي تزهق التعب المتراكم خلال الأعوام. فالنساء والرجال الذين يركضون صباحا على الشاطئ كأنهم يؤدون التحية لهذا الحب الأبدي. فمعظم المستجمين وافدين من المدن الإسبانية البعيدة عن البحر وكذلك من الدول الأوروبية. غير ان ظاهرة ال “تاب لس” جلبت نظري هنا وكأن هناك حركة نسائية وراءها لكن لم تشكل برأيي الا نحو ٥ في المئة من السابحات. الباعة الأفريقيين يجولون الساحل لبيع الشنط و المناشف والخردوات ويبدوا انهم يقارنون بين حياتهم البائسة ومايرونه على ضفاف البحر. رغم ان هذه السواحل العامة خاصة للطبقات الوسطى لكنني سمعت ان هناك مناطق راقية تحتضن بعض أثرياء الخليج لايمكن التقرب منها بسبب غلاء أسعار ايجار فنادقها وفيلاتها
الى غرناطة:
يوم الجمعة ١٢ يوليو قررنا ان نزور عاصمة سلاطين الأندلس وقصرها المشهور عالميا بقصر الحمراء. استأجرنا سيارة تاكسي. السائق يعرف القليل من الإنجليزية فسألت اسمه، قال: بدرو. بعد خروجنا من مدينة ملقة وعلى الطريق المنتهي الى غرناطة، تكسو أشجار الزيتون التلال والوديان؛ والعين وماترى زيتون، زيتون، زيتون يتخللها بعض مزارع الذرة والطماطم و.. قال لي السائق ان بساتين الزيتون توجد في معظم أنحاء اسبانيا وأفضل زيتون في العالم هو زيتون منطقة خاينة بعد غرناطة حسب قوله.
في اعلى الجبل على الطريق شاهدنا تمثال ثور كبير وكأنه يعلن أنكم في بلد “مصارعة الثيران” وتذكرت ما كتبه الروائي الاميركي إرنست همينجوي حول ذلك. وأكد لي السائق ان هناك مهرجانات لمصارعة الثيران تقام كل شهر في مختلف المحافظات، تبدأ من شهر مايو من محافظة مدريد. زرنا قصر الحمراء الواقع في قلعة كبيرة ذات حدائق جميلة وقنوات مياه وأبنية دمرها الإسبان ولم يبقوا الا على القصر لجماله واستحكامه. كما انهم حولوا مسجده الى كنيسة. فمعظم أشجار حدائق القلعة وغرناطة بشكل عام من الصنوبر والحور. وقد بنى القصر، سلاطين الأحمر – وهم من بني نصر – في العام ١٢٠٠ م ويعود اصلهم الى قبيلة خزرج القحطانية. وتقع القلعة على سفح جبل نوادا الذي يغطيه الثلج في الشتاء. ومن ثم ذهبنا الى مركز مدينة غرناطة حيث شاهدنا مساءا هناك رقصة الفلامنكو الشعبية في احدى المطاعم، يقال انها رقصة عربية جاءت من شمال أفريقيا ويتم الرقص بواسطة امرأة او رجل او الاثنان.
مضيق جبل طارق: توجهنا يوم السبت ١٣ يوليو الى منطقة جبل طارق مع شركة سياحية ومعنا سياح من مختلف القوميات، معظمهم إسبان. ساعة ونصف بالحافلة من مدينة ميخاص التي اطرقنا فيها، الجبل من يميننا والبحر من يسارنا. كلما كنا نتقرب من المضيق كلما تخف كثافة الأشجار لكن الأرض خضراء وزاهية. هناك سياج يفصل الأراضي الإسبانية عن منطقة جبل طارق. يبلغ مساحة هذه الدويلة التي تتمتع بحكم ذاتي تابع للتاج البريطاني، ٦:٨ ك٢ ونسمتها نحو ٣٠ الف ولها علم وعملة خاصة. دخلنا بالحافلة من البوابة لكن قبل ان ندخل مدينة جبل طارق، واجهنا مطار ها الصغير الذي كان علينا عبور عرضه للوصول الى المدينة وكل هذا بسبب صغر منطقة جبل طارق. ويعد هذا المطار من اخطر مطارات العالم ولم يحط فيه الا الطائرات الصغيرة ومن بريطانيا فقط.ومن ثم ركبنا حافلة صغيرة، اخذ السائق وهو ايضا مرشد سياحي، يوضح لنا عن شبه الجزيرة الصغيرة هذه، و بعد مرورنا من ثلاثة انفاق محفورة في بطن صخرة جبل طارق – وهي في الواقع جبل صغير – وصلنا الى المضيق نفسه و من يسارنا البحر الأبيض المتوسط وعلى يميننا المحيط الأطلسي وأمامنا جبل موسى في دولة المغرب حيث سمي باسم موسى بن نصير قائد المسلمين عند الفتح الإسلامي الأموي لإسبانيا والذي يبعد ١٤ كم من هنا. ورأينا ناقلة النفط العملاقة الإيرانية – جريس١- الراسية بعيدا عن الشاطئ. لقد احتل الإنجليز مضيق جبل طارق في العام ١٧٠٤ وقبلها كان العرب يسيطرون عليها حيث فتحها طارق بن زياد في العام ٧١١ آمرا بتحطيم السفن التي نقلت جيوشه الى الجهة الأوروبية للمضيق قائلا: ان العدو أمامكم والبحر وراءكم فإما نموت وأما ننتصر، وفتحوا بالفعل كل اسبانيا وتوجهوا الى فرنسا غير انهم خسروا الحرب في منطقة توصف ب “بواتيه”،واكتفوا بما فتحوه. ومنذ ذلك التاريخ وحتى القرن الخامس عشر كانت تحت سيطرة سلالة الموحدين ومن ثم آل الأحمر . ولم يسيطر الإسبان على هذا المضيق الواقع في جنوب اسبانيا الا لمدة قرنين. وتجاور مدينة الكثير الإسبانية منطقة جبل طارق وتبعد من الأراضي المغربية بحرا نحو ٢٤ كلم. ووفقا لدليلنا السياحي الذي كان يسوق الباص ويوضح، ان خمسين بالمائة من منطقة جبل طارق لها طابع عسكري وتتشكل من المدينة القديمة والمدينة الجديدة، و ان ارتفاع صخرة جبل طارق يبلغ نحو ٥٠٠ مترا وقد وصلنا بالفعل الى ارتفاع ٣٠٠ مترا حيث توجد هناك مغارة كبيرة تشابه المغارات التي زرتها في ايران كمغارة علي صدر في همدان ومغارة كهك في محلات وفيهاالهوابط والصواعد(استالاگتيت واستالاگميت) وكذلك شهدنا قرود يبدو انها وفدت من شمال أفريقيا. فقبل ان نصل اخبرنا المرشد بوجود هذه القرود قائلا بمزاح: ان الإنجليز سيغادرون جبل الطارق عندما تغادرها القرود، مما اثار ضحكة السياح. وخلال انتباهي لكلام الناس ادركت ان العمال والسواق والكسبة والناس العاديين معظمهم من الإسبان لكن العسكر والإداريين من البريطانيين.كما توجد جالية مغربية صغيرة ولديها ثمة محلات. وبالقرب من هنا تقع منطقة الطرف الأغر (ترافالغار بالإنجليزية) التي انتصرت فيها القوات البحرية البريطانية بقيادة نلسون على القوات العسكرية المشتركة لإسبانيا وفرنسا واكدت هيمنتها على مضيق جبل طارق والمستمر حتى اللحظة. ويعتز البريطانيون بنلسون هذا و نصبوا له تمثال في اعلى ساحة الطرف الأغر في لندن وكذلك في جبل طارق. وشاهدنا في المدينة القديمة مكتب صحيفة “جبل طارق كرونيكل” التي تأسست في القرن السابع عشر وكانت تغطي اخبار نلسون ومعاركه حسب المرشد. كما شاهدنا مقر حاكم جبل طارق وعلمي بريطانيا وجبل طارق يرفرفان على عمارته.
يوسف ياسين عزيزي ١٦/٧/٢٠١٩
(شرح الصور: من ١-١٢ قصر الحمراء في غرناطة، من ١٣-١٥ مركز مدينة غرناطة، من ١٦-٢٣ جبل طارق، ٢٤مدينة ملقة)