يوسف عزيزي
القدس 12 – أغسطس 2012
لندن – القدس – كتب الباحث والصحفي الاهوازي يوسف عزيزي مقالا تحت عنوان ” الاهوازي العصامي من حارة “رفيش” الفقيرة الى رصيف المنية في واشنطن” جاء فيه: انطلق قطار الحياة من احدى الحارات الفقيرة في مدينة الاهواز قبل 56 عاما وعرج به الى محطات عدة منها طهران و عجمان وواشنطن. والعاصمة الاميركية كانت النفق الذي لم يخرج منه القطار، اذ وقف فيه قلب كاتبنا الاهوازي منصور مشرف ولفظ فيه آخر انفاسه وهو بعيد عن عاصمة اقليمه، عربستان التي ولد فيها وترعرع ونهل من مياهها و تراثها وثقافتها. توقف قلب رجل عصامي كدح وكتب وجهد من اجل شعبه العربي الاهوازي. وقد وافته المنية يوم الاربعاء 25 تموز/ يوليو 2012، ليس في وطنه، بل بعيدا عنه آلاف الاميال، وهو لم يبت في هذه الحاضرة الا ليلة واحدة. فقد توفي كاتبنا الاهوازي في عاصمة اغنى دولة في العالم، وهو الذي عاش طفولته – كأي طفل اهوازي – في اغنى اقليم في ايران (ولربما في العالم)، محروما من لغته وثقافته وثروته. توقف قلبه الكبير في مدينة فتحت ابوابها له بكل رحابة صدر.فلم اعرف هل تشبع منصورا بعطر التفاح المنتشر في بساتينها وهو برفقة صديق اهوازي دعاه ودعمه كي يحقق احلامه؟ منصور مشرف الحائز على بكالوريوس اللغة العربية من احدى اهم جامعات طهران، اضطر ان يختبر العديد من المهن ليتدبر حياته: في الاهواز بداية الثمانينات، باع الكتب على ارصفة مدينته الحبيبة كي يفتح الاقفال المغلقة على بعض القلوب، واشتغل كقفال غير محترف وقام بتصليح الاقفال المعطلة للناس، كما عمل سائقا على سيارات الاجرة وعمل في مهن اخرى. كان يسعى هذا الانسان العاشق للكتب والمعرفة ان ينشر الحب والكتب بين الناس وخاصة بين ابناء جلدته الذين احبهم وعاش بين افقر فئاتهم في حارة الدائرة – المعروفة حاليا بحي الثورة – بعد ان انتقل والده من حي “رفيش” الى هناك. من حارة الى حارة و من عوز الى عوز، لكن صديقنا العصامي الغني بمعرفته وعزيمته لم ينثني امام الصعوبات مهما كانت شدتها.تعرفت على منصور بعد اشهر قليلة من قيام الثورة الايرانية وكان قد اطلع على مقالاتي وكتبي الصادرة انذاك. اتذكر انه اقترح ان يكون لشعبنا العربي الاهوازي نشيدا وطنيا وامورا اخرى، بل كتب كلمات النشيد، لكن سرعان ما رحل الى طهران بعد ان بدأ النظام الديني الوليد يقمع كل من لايتفق معه بالرأي واخذ يضيق على القوى القومية العربية والاحزاب التقدمية في عربستان.كان قلبه ينبض بين اثنين، شعبه العربي المضطهد، والفئات الكادحة في ايران اذ انتمى في اوائل الثمانينات الى احد الفصائل اليسارية، اثر غياب المنظمات القومية العربية التي تعرضت للقمع منذ الشهور الاولى لقيام الثورة الاسلامية في ايران. وهناك قائمة من عشرات الشباب العربي الاهوازي الذين اُعدموا او سجنوا لفترات طويلة بسبب انتمائهم الى منظمة مجاهدي خلق او الاحزاب اليسارية كمنظمة “بيكار” و”فدائيي الشعب” و” تودة الشيوعي” بعد حملة القمع التي طالت هذه القوى المعارضة في اوائل الثمانينات من القرن المنصرم. لكن قلب منصور ورغم انتمائه لمنظمة فدائيي الشعب (الاكثرية) كان ينبض من اجل شعبه العربي الاهوازي وكان يعلق آمالا بان يحل اليسار الايراني، قضية القوميات غير الفارسية وهو المعروف تاريخيا بدعمه لقضايا الشعوب غير الفارسية . غير ان اليسار شهد انحسارا في ايران – ككل الحركات اليسارية في العالم – بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. في العام 1986 تم اعتقال منصور مشرف في طهران وهو على موعد مع احد رفاقه في المنظمة المذكورة آنفا، اذ تزامن اعتقاله الذي استمر حتى العام 1989 مع المذبحة التي تعرض لها المعتقلين المنتمين الى منظمة مجاهدي خلق والاحزاب والمنظمات اليسارية والشيوعية. وقد اصدرت القيادة الايرانية انذاك اوامرها بتصفية السجناء الذين كانوا يقضون فترات سجنهم، اذا لم يتراجعوا من معتقداتهم السياسية والفكرية. وقد راح ضحيتها وفقا لمذكرات اية الله حسين علي المنتظري نحو 3 الاف سجين سياسي، لكن منصور نجى من تلك المذبحة بطريقته الخاصة وفي سجن “ايفين” بالذات، دون ان يتزعزع او يوشي باحد من رفاقه.وبعد خروجه من السجن، عمل ابوسهيل في عدة شركات ومؤسسات، ومارس شتى الحرف منها تدريس اللغة العربية في المدارس الخاصة والترجمة في السفارة الفلسطينية بطهران. وقد ركز في هذه الفترة على العمل الثقافي والصحافي، وعكف على إكمال كتابه الهام والمعنون ب”الامثال الاهوازية” حيث طوره واصبح كتاب للامثال المقارنة العربية والفارسية والانجليزية. غير انه لم يتمكن من نشره في ايران ولا في الخارج بسبب تكاليف النشر الباهضة ولم يساعده احد في ذلك والكتاب موجود حاليا لدى اسرته.في العام 1997 لعب دورا هاما في الاعداد لصحيفة “الاهواز” لصاحبتها منيجة جاسم نجاد، وقد دفعه لذلك حماسه القومي لانها اول شخصية عربية بعد الثورة الاسلامية تحصل على ترخيص لصحيفة ولو بالفارسية. وكان يشعر بالمسؤولية لدعم هذا المشروع الصحافي. وفي نفس العام، سافرنا – انا وهو – الى الاهواز لهذا الغرض مخصصا وقته وطاقاته لانطلاق هذه الصحيفة.وفي عهد الرئيس السابق محمد خاتمي (1997 – 2005) الذي اتسم بانفتاح نسبي للاجواء السياسية في ايران، تفتحت طاقات منصور الثقافية والصحافية حيث خاض معاركه القلمية – باللغتين الفارسية والعربية – في الصحافة الاصلاحية (وخاصة صحيفة المشاركة) بطهران وكذلك في الصحف المحلية في الاهواز (خاصة في صحيفة الشورى)، مدافعا شرسا عن حقوق الشعب العربي الاهوازي وبطريقته المنطقية والبعيدة عن الاسائة. كما كان يرعى الانشطة الثقافية ويحضر بين الحين والاخر في الامسيات الشعرية والمهرجانات المسرحية في الاقليم، منها في مدينة الخفاجية. وقد كان عضوا مؤسسا ونشطا في “بيت الشعوب ” – خانه اقوام – في طهران حيث كنا نشارك منذ العام 2000 الى جانب نشطاء من الأذريين والاكراد والتركمان والبلوش من اجل التنسيق بين الشعوب غير الفارسية وتشكيل جبهة واحدة. وقد لبى طلبا لهيئة المؤسسين لكتابة ميثاق “بيت الشعوب” ونظامه الداخلي وهذا ما اثار استحسان الجميع. غير ان الاستخبارات الايرانية لم تتساهل مع وجود مثل هذه المنظمة واخذت تعرقل نشاطها حتى قامت باغلاقها نهائيا في العام 2003. كما كان عضوا مؤسسا لجمعية شكلناها كجالية عربستانية في طهران في العام 2001 ، والمعروفة ب”بيت العرب”، غير انه غادر ايران الى الامارات في العام 2003 حيث سكن في عجمان وفتح دارا للترجمة هناك. لكن الحظ لم يساعده هناك ايضا، مما ادى به ان يفكر بالهجرة الى الولايات المتحدة الاميركية. فلم يسلم ابوسهيل من الضغوط السياسية والاقتصادية عبر حياته المشفوعة بالتعثرات والاعتقالات، اذ كان حساسا وفطنا لتغلغل بعض الجواسيس في نشاطاتنا الثقافية والسياسية. ويعود ذلك الى تجربته المريرة من جهة والمفيدة من جهة اخرى في سجون السلطة الايرانية. ويقول الناشط في مجال حقوق الانسان الاهوازي كريم عبديان الذي استضاف منصور مشرف في بيته بواشنطن: اني استغربت لما رأيت حقيبة سفر منصور الكبيرة لم تضم الا 3 قمصان وعدد قليل من الالبسة الاخرى، فيما امتلأ القسم الاعظم منها من الكتب والمقالات والاشعار والقصص غير المنشورة. وقد نشر اول انتاجاته الفكاهية تحت عنوان”سويلفات بيناتنا” في كتاب “نسيم كارون” الجزءالاول وكذلك بعض من الامثال العربية الاهوازية التي عكف على تجميعها لسنوات طويلة ومن مصادر مختلفة، واستمرت مشاركته في الجزء الثاني لكتاب نسيم كارون الذي اضطررت لنشره في المانيا بسبب منع السطات الايرانية له في ايران. وهو لايزال ممنوع من قبل وزارة الارشاد الايرانية بعد مرور 17 عاما.فعلاوة على كتابه الخاص بالامثلة العربية والذي يتشكل من عدة اجزاء، لديه العديد من القصص الفكاهية والاشعار والمقالات غير المنشورة نتمنى ان ترى النور يوما ما.وقبل وفاته بعدة اشهر اخذ يشارك معنا في اجتماعات مركز مناهضة العنصرية ومعاداة العرب كعضو ناشط، اذ هو الذي حرر البيان رقم 11 للمركز وعنوانه “شعبنا العربي الاهوازي بين مطرقة النظام وسندان العنصريين”. وكان يتقن الفارسية بشكلها الادبي، افضل من العديد من اصحاب اللغة انفسهم، كما ان المقالات التي نشرها في صحف الامارات ومنها مقالاته في صحيفة الخليج تؤكد مدى اتقانه للغة العربية. ولاسباب خاصة لقد تأخر اصدقائه بعض الشيء عن الكتابة حول هذا الكاتب المبدع والوفي لطموحات شعبنا العربي الاهوازي، ارجو من رفاق دربه ان يكتبوا عنه، واني على يقين بانه سيبقى اسما خالدا ونبراسا منيرا في تاريخ نضال هذا الشعب.