يوسف عزيزي
الزمان ـ 11 – 8 – 2004
طهران – شهدت ايران خلال اقل من قرن ثورتين هامتين الاولي ثورة الدستور(1906 ــ 1908) والاخري الثورة الاسلامية (1979)، وكما نري ان المسافة الزمنية التي تفصل بين هاتين الثورتين لم تتجاوز الـ 70 عاما. واحتفل الايرانيون يوم الرابع من هذا الشهر بالذكري ال 98 للثورة الدستورية التي عرفت بثورة المشروطة. فقد شهد شهر آب (اغسطس) من عام 1906 التوقيع علي اول دستور ايراني اعقبه بقليل قيام اول برلمان في القارة الاسيوية، حيث كانت ايران خامس دولة في العالم تتمتع بدستور يحد من سلطة الملك. وقد هبّت رياح التغيير علي المجتمع الايراني في القرن التاسع عشر حين ادركت النخبة الايرانية مدى تأخرها تجاه العملاق الاوروبي. وانبثقت اولى ملامح الصحوة القومية عند بعض رجال الدولة في بلاط السلالة الملكية القاجارية كالوزراء والسفراء الذين زاروا البلدان الاوروبية وتعرفوا على حضارة الغرب. وحاول هؤلاء وبسبب هيمنة التقاليد والافكار الدينية تلفيق الافكار الغربية الحديثة مثل سيادة القانون وحقوق الانسان التي نادت بها الثورة الفرنسية مع الشريعة الاسلامية المتجذرة في المجتمع الايراني. بل اعتبر بعض المفكرين الايرانيين ان فكرة الحرية والاخوة والمساواة هي من صلب الافكار الاسلامية. كما سعت مؤسسة رجال الدين وبسبب احتكاكها المباشر مع الجماهير الشعبية ومنافستها للمؤسسة الملكية سعت لكسب الجماهيروقيادتها لمواجهة الظلم والتعسف التي كانت تمارسه السلطة الاستبدادية لملوك القاجار.
وقد حاول بعض الماركسيين الارثدكس الايرانيين المتاثرين بالفكرالسوفيتي، تحليل الثورة الدستورية في ايران على نمط الثورات الاوروبية والمراحل الخمس التاريخية: الكومونات الاولية والعبودية والاقطاع والرأسمالية؛ حيث ادعوا ان الطبقة البورجوازية هي التي قامت بتلك الثورة التي تعتبر اهم حدث في التاريخ الايراني عقب سقوط السلالة الساسانية واعتناق الايرانيين الاسلام في القرن السابع الهجري. وهذا بالطبع ليس صحيحا لانه لم تكن هناك طبقة بورجوازية صناعية في ايران كتلك التي قامت بالثورات البورجوازية في اوروبا.
كما ان البعض الاخر حاول تعليلها على اساس نظرية ” نمط الانتاج الاسيوي” للفيلسوف الالماني كارل ماركس.
فهذا التخبط في تحليل التاريخ الايراني نجم عن كتابات الماركسيين الروس والمؤيدين لهم في ايران قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، غير ان بعض المفكرين الايرانيين يعتقدون حاليا بان نظام الحكم في الامبراطورية الفارسية لم يشهد الفترة الاقطاعية كما كانت في اوروبا بل كان اسوة لحكم الفرد المطلق في قارة آسيا؛ ولذا يمكن تأطيره في دائرة نظرية نمط الانتاج الاسيوي.
ويقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري ان نموذج الحكم الاستبدادي في الامبراطورية الفارسية انتقل الى الخلافة الاسلامية في بغداد بعد الفتوحات العربية الاسلامية.
فعلى كل حال ان النظام السياسي في الامبراطورية الفارسية كان يتسم بالحكم المطلق للشاه اوالكسرى الذي كان يدعي بانه (ظل الله) في الارض. وقد تمكنت الثورة الدستورية في ايران من كسر شوكة الملك وفصل (البلاط) عن (الحكومة) اي اشتراط الملكية المطلقة بالقانون كما كان ولايزال سائدا في بريطانيا وبلجيكا ومناطق اخرى من اوروبا. غير ان الثورة الدستورية في ايران لم تبلغ كافة اهدافها التحررية لاسباب محلية ودولية وهذا ما ادى الى اجهاضها من قبل الشاه رضا البهلوي الذي استبد في الحكم في الفترة (1925 ــ 1941) اي بعد 15 عاما من قيام الثورة.
وكان تجارالبازار وكبار الملاكين (وهم يختلفون عن الاقطاعيين) من الشرائح الاساسية التي قامت بثورة الدستور وذلك تحت قيادة رجال الدين المتنورين الذين تربطهم علاقات اقتصادية مع هذه الشرائح. ونحن نعلم ان هذه الشرائح هي الممول الرئيسي للمؤسسة الدينية في ايران وذلك بدفعها المبالغ الشرعية الخاصة بالخمس والزكاة. ويبدوأن نظرية المفكر المصري سمير امين تساعدنا على تبيان التشكيلة الاقتصادية ــ السياسية السائدة في ايران اوائل القرن العشرين. اذ تؤكد على دور التجارة ــ الى جانب الزراعة ــ في هذه التشكيلة مثلما كان في مناطق اخرى من الشرق الاوسط.
ويعتقد المفكر الايراني همايون كاتوزيان ان التاريخ الايراني وخاصة التاريخ المعاصر يسير وباستمرار وفقا للخط البياني التالي: الاستقرار ــ الثورة ــ الفوضى وهويتأمل بان ترسم سيادة القانون والديمقراطية في قرننا هذا حدا لهذه الدائرة المفرغة.
وجاءت الثورة الاسلامية شباط (فبراير) 1979 امتدادا لثورة المشروطة كي تحقق الشعارت التي لم تتحقق في عهد السلالة البهلوية واهمها شعار (الاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية). غير ان الثورة الاسلامية حدثت في ظروف داخلية ودولية مختلفة. فقد غاب كبار الملاكين من الوجود بفضل ثورة الشاه البيضاء في 1962 التي افرزت الشرائح المهمشة وسكان الصفائح في ضواحي المدن الكبرى والذين اصبحوا الجيش الرئيسي للثورة الاسلامية التي اطاحت بنظام الشاه السابق. كما لعبت شريحة تجار البازار والطبقة الوسطى التحديثية والطبقة العاملة غير المنظمة دورها في ثورة شباط (فبراير) 79، غيرأن قيادة الثورة الاسلامية باتت بيد رجال الدين وذلك خلافا للثورة الدستورية التي شارك المثقفون، في قيادتها ولوبنسبة اقل. واطلقت الثورة الاسلامية، طاقات كامنة في المجتمع الايراني يمكن ان تمهد لتحولات ديمقراطية طالما طالبت بها الشعوب الايرانية خلال نضالها المستمر منذ اكثر من قرن.
وقد اختلف المنظرون في تصنيف ثورة فبراير بين تقليدية وتحديثية بل واعتقد البعض انها تنتمي الى ثورات ماوراء الحداثة. ويعتقد معظم الدارسين لهذه الثورة بأنها لم تخرج من الثورات التحديثية لكن بقيادة اكثر شرائح المجتمع تقليديا وذلك بسبب القمع الممنهج للنظام الشاهنشاهي السابق ضد القوي الاكثر حداثة كاليساريين والديمقراطيين والليبراليين.
وقد ادت العملية الحداثية في الداخل والمتاثرة من العولمة والتطورات العلمية والتكنولوجية التي يشهدها عالمنا اليوم ادت الي تجزئة القوي الحاكمة حيث تحولت فئات منها الي قوي علمانية وتحديثية محضة وهذا ما نراه في ظهور التيارات الاصلاحية بين صفوف القوي الثورية والتقليدية السابقة.