يوسف عزيزي
الشرق القطرية 3 – 11 – 2004
يعد الفرس من الشعوب المتدينة قياسا بمعظم الشعوب الآسيوية؛ حيث عرفوا الديانة الزرادشتية قبل الفتح الاسلامي وهي ديانة ثنوية تؤكد على تقديس النار. غير انهم اعتنقوا الاسلام قبل اكثر من 14 قرنا وساعدوا في توسيع رقعته في مغارب الارض ومشارقها. وبرز بينهم العديد من العلماء والمتكلمين والفقهاء والنحويين الذين قدموا خدمات جليلة للاسلام واللغة العربية. وقد بدأت آثار المذهب الشيعي ومنذ القرن التاسع الميلادي تظهر في بعض المدن الايرانية كقم وكاشان حتى ان اصبحت مذهبا رسميا في مطلع القرن السادس عشر اي في عهد الصفويين.
ويعتبر البعض، المذهب الشيعي- علاوة على اللغة الفارسية- من اركان القومية الفارسية التي انبثقت في مطلع القرن العشرين. ولم يؤد قيام دولة قومية فارسية علمانية في العام 1925 ومحاربتها للمؤسسة الشيعية في ايران الى اضعاف الدين في المجتمع الايراني، بل ان التحديث المفروض من اعلى السلطة على المجتمع المسلم- التقليدي في عهد الشاهين رضا بهلوي ونجله محمدرضا ادى الى ردود فعل خاصة تجلت في ثورة دينية لم يتوقع احد ابدا وقوعها في عصر كانت تتسم فيه الثورات بالعلمانية واللادينية.
وقد شهدنا خلال ربع قرن من عمر الثورة الاسلامية القائمة على انقاض النظام الشاهنشاهي شهدنا تأثيرها ليس فقط على المستوى الايراني بل على المستويين الاقليمي والعالمي. فقد اصبحت الثورة الدينية في ايران نموذجا يحتذى به في مختلف اصقاع العالم وبدأت الحركات الاسلامية الاصولية تتكاثر ليس في العالمين العربي والاسلامي فحسب؛ بل وبين المسلمين في اوروبا وامريكا ايضا. كما اصبح هناك اتجاه معنوي خاص يظهر في الغرب المسيحي الغارق حتى اذنيه بالمادية في كافة وجوهها الاجتماعية والثقافية.
فقد تحول المجتمع الايراني التحديثي- ظاهريا- في عهد الجمهورية الاسلامية الى مجتمع ديني يحكمه نظام اسلامي صارم؛ حيث اصبحت ايران كمسجد كبير لاهم لها الا اقامة الصلاة والصوم والعبادات الاخرى. وشاهدنا ذلك في المدارس والجامعات والوزارات والدوائر الحكومية. وقد اختفت المظاهر غير الاسلامية كالحانات والكازينوهات وبيوت الدعارة ومحلات بيع المشروبات الحكولية والسفور بين النساء، حيث تحجبت بطوع او فرض. ولم تقتصر المدارس والحوزات الدينية على معاقلها التقليدية كمدينتي قم ومشهد بل تم انشاء العديد منها في كافة المدن والمحافظات وارتفع عدد الطلبة الدينيين الذين يدرسون في مثل هذه المدارس والحوزات عدة اضعاف قياسا بعهد الشاه وذلك بفعل اقبال الشباب الثوري عليها.
وقد بلغ الخطاب الديني الذي اخذ ينبثق في الستينيات من القرن الماضي، بلغ ذروته في اواسط الثمانينيات اي عقب مرور بضع سنوات من قيام الثورة الاسلامية؛ غير ان استمرار الحرب العراقية- الايرانية وتداعياتها السلبية على حياة الناس والقمع الذي قامت به السلطات الثورية ضد الفصائل السياسية المختلفة من قومية وليبرالية ويسارية والممارسات العنيفة ضد النساء والشباب والقوميات اسفرت عن انحسار نوعي في الخطاب المذكور.
وقد ادت الحرب الى التأخير في تحقق المطالبات السياسية والاجتماعية لفئات وشرائح واسعة من المجتمع الايراني. وقد حاول الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني ان يفتح النوافذ للتنفيس غير انه وبتركيزه على التنمية الاقتصادية دون التنمية السياسية والثقافية لم يثمر شيئا كثيرا لامتصاص الاستياء الشعبي المتنامي. وقد بدأت فئات دينية كانت تنتمي الى الخطاب الرسمي بدأت تبتعد منه رويدا رويدا وتوجه له النقد تلو النقد. اذ طالب هؤلاء المثقفون الدينيون بمراجعة الخطاب الديني المهيمن او ما يصفونه باستخدم الدين كايديولوجية للسطة.
وقد حذر بعض رجال الدين المتنورين مرارا من تداعيات فرض نمط خاص على حياة الشباب.
ويعتقد المحللون ان نهاية الحرب العراقية – الايرانية ورحيل مؤسس الثورة الاسلامية اية الله خميني تؤرخ لفترة جديدة منها رواج القيم والمعايير التحديثية والمادية والعلمانية او بالاحرى الدنيوية في سلوك الاغلبية، خاصة بين الشباب والطبقة الوسطى في المدن.
وكان فوز المرشح الاصلاحي محمد خاتمي على منافسه المتشدد علي اكبر ناطق نوري في الانتخابات الرئاسية عام 1997 نتيجة للتطور الذي حصل في العقلية الايرانية من التشدد والتزمت الى الاصلاح والتعددية والتساهل الديني وذلك بالرغم من جميع الحواجز التي يضعها اصحاب الخطاب القديم في مسار العملية الديمقراطية في ايران.
وقد سرعت ثورة المعلومات ورواج الفضائيات والانترنت في علمنة العقلية الايرانية، خاصة في المجالات الاجتماعية والثقافية وليس بين المثقفين فحسب بل بين فئات شعبية واسعة من المجتمع الايراني.
وتظهر الاستطلاعات ان المعتقدات الدينية بين الناس لم تنحسر كثيرا بل اخذت تتحول الى معتقدات شخصية والى علاقة بين الانسان وربه.
وقد حذر في الاعوام الاخيرة بعض رجال الدين من ظاهرة ابتعاد الشباب من المؤسسة الدينية مطالبين بايجاد حلول لهذه الظاهرة.
وننهي هنا مقالنا بتصريحات وزير الاستخبارات الايراني علي يونسي والتي ادلى بها مؤخرا حيث انتقد فيها اداء رجال الدين قائلا:” معظم ابناء الشعب الايراني يعتقدون بالله والدين والرسول والائمة حيث اذا كان هناك بعض الذين يتركون الدين او يعادونه فهذا ناجم عن ادائنا نحن- انا وانت- وبسبب التشدد الذي ليس في محله” (صحيفة آفتاب 10/31).
ويختلف يونسي وكوزير في حكومة خاتمي الاصلاحية مع المتشددين الذين يدعون باستشراء الفساد في المجتمع الايراني وزوال الدين منه ويعزون ذلك الى اصلاحات خاتمي. ويرد وزير الاستخبارات على هذه الادعاءات قائلا :” ادى النمو السريع للسكان واتساع المدن وارتفاع عدد سكان هوامش المدن وازدياد توقعات الناس والتفاوت الطبقي والاجتماعي أدى الى ظروف يصعب في ظلها، ادارة الجيل الجديد. اذ يصرح البعض ودون الانتباه الى التعقيدات الراهنة في المجتمع الايراني قائلين ان الدين قد زال والفساد قد عم في المجتمع؛ فيما لم يكن الامر كذلك وان الناس بمعظمهم يعتقدون بالدين؛ واذا لم نتمكن من استقطاب هذه الاغلبية من السكان فان السبب يكمن في ادائنا نحن” (صحيفة جمهوري اسلامي 10/31).