التمساح

قصة قصيرة

يوسف عزيزي

لم أفهم سوى كلمة «غجر». لا تبدو حركاتهما مألوفة ولا سلوكهما. كانت نظراتهما مملوءة من الريبة والعداء. سحب أحدهما – وهو اسمر اللون ذو شارب كث – السكين من جيبه، وبدأ يلعب بها. كانا يحملقان ببغض حيث كان باستطاعتنا أن نتوقع ماذا يخططان لنا. همست لصديقي رسول: الحالة غير مألوفة.

–  لكننا لم نفعل أي شى ء.

– ما تقوله صحيح، لكن يبدو انك لم تسمع ماذا قال لصديقه ؟

– لا.

– قال له: هؤلاء “غجر”.

سحبت الكوفية من حقيبتي، ولففتها على رأسي. سطعت عينا الشاب الأسمر ذي الشارب الكث. طوى السكين، وقال ضاحكا:

– هل كنت في مسقط ؟

-لا.

– فمن اين أتيتم ؟

– من عبادان، وانتم ؟

– كنت ضابط صف في مسقط والآن أتيت الى بلدتي “سرباز”(1).

ضحك، فابتسمت.

أمر لنا بالشاي.  قلت:لا أشر ب

– انزعجت ؟

– لا، الطقس حار.

– جيد، ما هو مقصدكم ؟

– المحيط الهندي.

ضحك مرة أخرى.

وحين يضحك، يتحرك فكاه كفكي الكوسج.

كنا – أنا وصديقي –  ننضح عرقا، حتى التصقت ملابسنا بأجسادنا.

كان المقهى يشرف على الوادي الذي يجري فيه نهر «سرباز”. فكنا نرى أشجار الموز بوضوح. قال رسول:

– دعنا نستحم بالمجان بالنهر.

–  يبدو أنك تذكرت نهر كارون ؟

– والله أنا مضطرب منذ أمس بعد استماعي للخبر الذي بثته الاذاعة. يا ليتني الآن في مدينتى عبادان. ليس عندنا خبر دقيق عن المأساة. اشتعلت سينما «ركس » (2) وما فيها من مشاهدين ولم نعلم من هو الحي ومن هو الميت ؟

– هل تظن أننا بعودتنا إلى عبادان نحيي الموتى؟

– لا ولكن في الأقل نطمئن على سلامة أقربائنا.

– ما هو الفرق ؟ الجميع هم  أبناء مدينتنا.

واتجهنا صوب الوادي. رسول بدأ يجري في انحدار الوادي، متجها الى النهر. مترنما بأغنية عربية قديمة، وبجريه هذا، ظننت أنه ينوي دخول النهر بملابسه.

وقفت هنيهة انظرإلى أشجار الموز و قطرات الندى تتلألأ على أوراق الموز العريضة والمتدلية من الأغصان.

هذه هي الأشجار الوحيدة المفيدة في تلك المنطقة، كانت مياه النهر مغرية في تلك الصبيحة المشتعلة، لكنني احترزت.

وصل رسول الى ضفة النهر، ونزع ملابسه وأنا ماأزال واقفا في مكاني أنظر إليه، وإلى الشاحنة التي وصلنا بها، ولولاها لم نصل الى هذه البلدة النائية ،والى المحيط. كان السائق قد استخفى في وبدأ يشرب الأفيون. كنا خائفين ان يتركنا ويذهب دون علمنا، لأنه فهم أننا فهمنا بعض الأمور.

كانت الشمس مشتعلة في كبد السماء مثلما كانت أمس. فتلك الشمس كانت تختال في أعالي جبال” تفتان” كفتاة جميلة وتصب حممها على الأرض كنيران عفريت، وأنا أرى عدة سحب قاتمة ووسخة ومبعثرة ذات أشكال مزعجة.

عادة لم ينتظر من السماء في ذلك الموسم الصيفي أن يمطر غير أنني كنت أشعر انه من الممكن أن تهطل علينا الأمطار الغزيرة في أية لحظة، يا لها من غيوم قريبة جدا فأشكالها تظهر انها كانت تتسكع في سماء هذه المنطقة منذ عهد آغا محمد خان الغجري (3). فبامكانك أن ترى جماجم محتشدة، كانت تراقب الأرض دون عيون.

فادهشتني صرخة طويلة مرعبة من أسفل الوادي، حيث خرج عدد من الذين كانوا في المقهى. فاذا برسول يصعد الينا في أعلى الوادي  لاهثا حتى إنه كاد أن يموت حينما وصل الينا في أعلى الوادي. سألته: – ماذا وقع ؟

قال وهو عريان يلهث: انظر ماذا ترى على ضفة النهر.

– لا أرى شيئا

–   لونه لون التراب، انظر جيدا.

كان فم التمساح مفتوحا يبحث عن فريسة، فتمكنت من رؤية أنيابه أيضا. أصبح وجه رسول شاحبا ويبست شفتاه وبدأ يرتجف في ذلك الطقس الحار. فلما ارتاح هنيهة، سألته: وماذا عن ملابسك ؟

–  حتى لو تكون من الذهب لن أرجع اليها.

رغبت أن أقول له مازحا: كان الحظ معك مرتين حتى الآن، مرة نجوت من سكينة البشر، ومرة من سكينة الحيوان، لكن في المرة الثالثة الله أعلم بما يجري عليك. لكنني لم أقل هذا الكلام لأنني شعرت أن مزاجه لم يكن مستعدا للمزاح.

التمساح لم يزل ينتظر، ولم يفارق الضفة. نحن أيضا كنا ننتظر ساعة رسول الثمينة التي اشتريناها من مدينة زاهدان تلمع من بعيد. كانت تغرينا كي نتقدم اليها غير أن التمساح شعر بالأمر، فلم يتزحزح من مكانه قيد أنملة.

الشمس أخذت تقترب تدريجيا من وسط السماء. لم نعرف الوقت لأن التمساح أخذ ساعتنا رهينة، رأيته يشمها عدة مرات، كأنه يحاول أن يأكلها.

لو كان التمساح أكل رسولا بالتمام لوصل صديقي حتى الغروب الى المحيط الهندي. فكان لابد لي في تلك الحالة الا أعود الى عبادان خائبا والا أكون قلقا للحصول على سيارة لتنقلني الى ميناء «جواتر”(4).

فقمنا بدفع حجارة كبيرة من أعلى حافة الوادي حيث أخذت تتدحرج انحدارا لكنها لم تصب التمساح.

حاولت أن أقنع رسولا أن نمكث مدة أطول هناك نراقب فيها التمساح فربما يترك الملابس. لم يقتنع. كان يقول لي:لا نستطيع أن نمكث أكثر من هذا في بر موحش كهذا، وحينما تركنا المكان والملابس قلت له:

– كأنه استولى عليك الخوف يا رسول، لماذا وأنت الذي كبرت مع الكواسج ؟

– ماذا تقول يا اخي، فألف رحمة على أبي الكواسج. فالتمساح الملعون يأكل الانسان والقرش معا في وجبة واحدة.

– دعنا من الفلوس والملابس، ربما نستطيع أن ننقذ الساعة من يده.

– فاتركها هذه أيضا هدية له.

كان رسول على صواب، فالتمساح كان يشم رائحة البشر من ملابسه ولم يرغب في العودة الى الماء أبدا.

ا – بلدة نائية يقطنها البلوش في محافظة بلوشستان ايران، قربية من بحر عمان والمحيط الهندي.

2- اشارة الى الحريق الذي شب في سينما ركس في مدينة عبادان قبل انتصار الثورة الإيرانية ببضعة اشهر، راح  ضحيتها أكثر من 300 شخص.

3- مؤسس سلالة ملوك الغجر الذي حكم ايران في أوائل القرن التاسع عشر، واحتل  بلوشستان ذات الكثافة السكانية من العنصر البلوشي.

4-  ميناء في محافظة بلوشستان الإيرانية على ضفاف المحيط الهندي وقريبة من بلدة سرباز..

جديد الموقع

هورنا مجفف وهورهم يبهر العالم رحلة أحوازية الى ارض النهضة ؛ فلورنسا والبندقية- يوسف عزيزي: في العام ١٩٧٦ وخلال رحلتي الى اوروبا وشمال افريقيا لم اتمكن انا ومرافقي الجيلكي علي مقدسي من زيارة مدينة البندقية، حتى ان سنحت لي الفرصة ان اقوم بذلك في الفترة ٢٧-٣١ يوليو ٢٠٢٢، ومن ثم زرت مدينة فلورنسا من ٣١يوليو -٣ اغسطس من نفس العام . مدينة البندقية، التي توصف ب”ونيز” بالانجليزية ، مبنية على المياه، ما عدى المطار – واسمه ماركوبولو – وبعض الاراضي اليابسة المتصلة به. وماركوبولو (١٢٥٤-١٣٢٤م) ابن هذه المدينة معروف بمغامراته ورحلاته الى الشرق وخاصة الهند والصين في القرن الثالث عشر. وقال لي شخص يعرف الأهوار والمستنقعات ان البندقية قامت على بعض المناطق اليابسة في الأهوار الواقعة على هامش البحر وانا اتصور ان تلك الأهوار كانت تشابه اهوارنا كهور الحويزة والعظيم، وان مباني البندقية تم تشييدها على بقع يابسة مرتفعة كتلك التي نحن نصفها ب”الجبايش” في اهوارنا، لكن هنا في اوروبا اصبحت البندقية مدينة تبهر العالم وتجلب الملايين من السياح ليدروا عليها ايرادات تعادل بل تفوق ايرادات النفط التي يُستخرج من أهوار الحويزة والعظيم والذي ادى الى ان تجفف الشركة الوطنية الإيرانية للنفط هذه الأهوار لتتمكن وبمشاركة الشركات الصينية ان تنهب نفط تلك المنطقة وتدمر البيئة وتهجر السكان الأحوازيين من هناك.وفي مدينة البندقية القائمة على مياه البحر الادرياتيكي، لاترى تكسي ولا سيارة ولا حافلة، فكل ما في الامر هو: تكسي بحري وباص بحري. بل شاهدت ان بعض القوارب الكبار تقوم بمهمة الشاحنات لنقل التراب من المباني التي يتم تهديمها وكذلك لجلب الطوب والاسمنت وسائر مواد البناء. كما توجد في البندقية اشارات مرور لكن ليس في الشوارع المبلطة كما في كل مدن العالم بل في مفارق الشوارع المائية. وهناك العديد من الفنادق في المدينة لكننا كمجموعة استأجرنا شقة لانها كانت ارخص. هنا تشاهد الكنائس العديدة وقصور الدوقات (جمع دوق، حاكم الإمارة) ومركزها الرئيسي ساحة San Marco “سن مارك” في وسط البندقية. هناك قصر رئيسي في هذه الساحة والى جنبه سجن المدينة الذي يقع قسمه التحتاني في الماء. وقد زرنا كنيسة St Zaccaria (القديس ذكريا) وشاهدنا ارضيتها المغمورة بالمياه. وبين العديد من الجسور المبنية على الشوارع المائية هناك جسر يوصف بجسر الشجار حيث كان المنتسبون للنقابات المختلفة في القرون المنصرمة يتجادلون ويتشاجرون هناك، يمكن ان نصفه بجسر “البوكسيات” باللهجة الأحوازية. كما توجد جزيرة بالقرب من المدينة توصف ب “ليدو” يمكن الوصول اليها بالتاكسي او الباص البحري. وبعد الوصول الى محطة الجزيرة يمكنك عبور عرض الجزيرة مشيا على الاقدام خلال عشر دقائق وهناك تصل الى ساحل رملي مناسب جدا للسباحة لان عمق البحر يزداد بالتدريج وبعد نحو ثلاثين مترا تستطيع ان تسبح في المكان العميق الذي لايمكنك المشي فيه. وقد تطورت التجارة في البندقية في القرن الثالث عشر الميلادي اثر جهود عائلة ماركو بولو واخرين حيث تزامن ذلك مع انبثاق عائلة مديشي المصرفية والسياسية في فلورنسا. وكانت البندقية امارة مستقلة قبل توحيد ايطاليا من قبل غاريبالدي في القرن التاسع عشر. لكن الشعب هنا وفي اخر انتخابات او استفتاء في العام ٢٠١٩ رفض الاستقلال واستمر في الحياة مع ايطاليا محتفظا بحقوقه الثقافية والسياسية. ويبدو ان الامر يعود الى الوضع الاقتصادي المناسب للمدينة بسبب السياحة التي تبدأ من شهر مارس وتنتهي في شهر نوفمبر وتدر الاموال على هذه المدينة. كما ان لغة اهل البندقية لاتختلف كثيرا عن الايطالية حسب ما سمعت منهم. في فلورنساتبعد نحو ساعتين بالقطار من البندقية ولعبت دورا تاريخيا في انبثاق عصر النهضة والذي كان نقطة انعطاف في الحياة العلمية والفنية والثقافية في اوروبا بل والعالم. فعلاوة على العديد من الكنائس الكبيرة هناك متاحف تضم تماثيل ولوحات من مايكل أنجلو، ورافائيل وأخرين تبهر البصر وتثير الاعجاب. ويعد متحف Uffizi museum اهم هذه المتاحف. اذ كانت فلورنسا – كالبندقية – تعج بالسياح الوافدين من كل اصقاع العالم وذلك بعد عامين من الغياب بسبب جائحة الكرونا. ولفت انتباهي في المدينة كثرة الباعة العرب المغاربة والباكستانيين وبعض الافريقيين السود الذين يبيعون اشياء بسيطة على الارصفة. وقد قال لي سائق تاكسي كهل اقلنا من المدينة الى المطار بعد ان سألته عن الوضع الاقتصادي للناس قال: “اني اعيش في الضاحية لان المعيشة ارخص هناك”، وعن الاتجاهات السياسية هناك اكد انه اشتراكي وليس شيوعي ولا اشتراكي ديمقراطي. وعندما سألته عن برلينغرئر زعيم الحزب الشيوعي الايطالي – وهو اكبر حزب شيوعي في اوروبا – قبل خمسين عاما قال انه يتذكره ودون ان اسأله ذكر لي اسم أنتونيو غرامشي الفيلسوف السياسي اليساري الايطالي واصفا اياه بالعظيم وقد ايدت كلامه، حيث حكم عليه الفاشيون الحاكمون في ايطاليا في الثلاثينيات من القرن الماضي بالسجن لمدة عشرين عاما، وقد الف معظم كتبه هناك رغم الرقابة الصارمة. وقد استند الى نصوصه العديد من المفكرين العرب بما فيهم محمد عابد الجابري. كما ان دانتي أليغييري الشاعر الايطالي ومؤلف كتاب الكوميديا الإلهية ايضا من مواليد فلورنسا وكان معاصرا لماركوبولو.وكذلك ولد ومات المفكر والفيلسوف السياسي نيكولو ماكيافيلّي في هذه المدينة وهو الذي عاش في عصر النهضة والف كتاب “الأمير” الذي يعتبر احد اهم كتب الفكر السياسي، والماكيافيلية معروفة لحد الان كمدرسة في السياسة.وتقع جمهورية سان مارينو المستقلة ضمن خريطة ايطاليا وعلى الشرق من مدينة فلورنسا. وهي الى جانب الفاتيكان تعتبر ثاني دولة مستقلة ضمن هذه الخريطة وثالث اصغر دولة في اوروبا، وعاصمتها ايضا تسمى سان مارينو. مساحة هذه الجمهورية الجبلية ٦١ كيلومتر مربع وعدد سكانها ٣٣٤٠٠ نسمة، وقد تأسست كدولة جمهورية في القرن الرابع الميلادي. وفي العصر الحديث، اعترف مؤتمر فيينا في العام ١٨١٥ باستقلال سان مارينو دوليا. اما الدولة الثانية في خريطة ايطاليا هي الفاتيكان التي تقع في العاصمة روما وزرتها في العام ٢٠١١. قارن ذلك بما وقع لمملكة عربستان المستقلة ومن ثم المتحالفة مع الممالك الاخرى في بلاد فارس. هذا ما ناقشته هاتفيا مع ابن بلدي سعيد سيلاوي الأحوازي الذي يقيم في مدينة بولونيا – بين البندقية وفلورنسا- والذي لم استطع من زيارته هناك رغم اصراره وزوجته ام فهد التي خاطبتني قائلة : “عليكم ان تزورونا” وعندما قلت لها ان عددنا كبير ومنزلكم صغير ذكرتني بالمثل الأحوازي: “موش مشكلة، ان البرة لنا والداخل لكم”.


الإستعلاء العرقي الفارسي ومعاداة العرب


حوار مطول لقناة الشرق مع يوسف عزيزي


ثورة الأحواز” توحّد الهتافات برحيل نظام الملالي”


جرائم لايمكن السكوت عنها


فيسبوك

تويتر

ألبوم الصور